هشام الحمامي يكتب: الإسلام السياسي (لؤم المصطلح وعِلَة الإصلاح)

ذات مصر

انتبه أكثر رجال الحركات الإصلاحية طوال القرنين الماضيين ..إلى أن إصلاح حال الناس أفيد وأوقع كثيرا من إصلاح حال الدولة، وقد كانت لحظة (المفارقة البينة) في ذلك.. تلك التي كانت بين السيد جمال الدين الأفغاني(ت/ 1897م) والشيخ الإمام محمد عبدة(ت/ 1905م).. كل سار في طريق وكل اصبح علم على هذا الطريق.. 

الأول يرى ضرورة إثارة مشاعر الناس ودفعهم دفعا أمام الحكام ليشاركوهم الثروة والسلطة، وتاريخ أوروبا في ذلك كان ولازال ساخنا رطبا(ثورات 1848م نموذجا).. والثاني يرى ضرورة تعليم الناس وإثارة وعيهم بالحياة واطلاق طاقاتهم في ربوع تلك الحياة .. بعد أن ظهر بوضوح أن الحضور الصحيح للإنسان هو أهم دعامة للإصلاح .

الطريقان امتدا .. وبكل مباهج البراءة الأولى حاول التيار الإصلاحي الكبير في الثلاثينيات والأربعينيات الجمع بينهما وفي ظروف تكاد تكون اجتمعت على ذلك، خاصة أن الفريق عزيز المصري المربى العسكري للأمير فاروق (ت/ 1965م) والشيخ المراغي شيخ الأزهر (ت/ 1945م) وعلى ماهر باشا (ت/1960م) رئيس ديوان الملك فؤاد والتيار الذى عٌرف بالتيار العروبي والذى كان له دور بارز في مجيء الملك فاروق (ت/1965م) خليفة لأبية وليس أحد غيره من الأسرة العلوية.. 

***

هذا التيار رأى في الحركة الإصلاحية الكبيرة وقتها ،مطلع فجر جماهيري جديد ومتماسك في التنظيم والأفكار .. ورأى فيه وصلا للعلاقة بين الأمة ومصدر قوتها (الإسلام والعروبة) ..وقد كان بالفعل يمثل كل الاحتمالات الممكنة في ذلك .. كما وأنه مختلف عن جماهيرية (حزب الوفد) الذى كان قد امتلأت صفوفه بالكثير من طبقة كبار الملاك وأصحاب المصالح التي تطلب الحماية لمصالحها .. والذى كاد أيضا أن يسيطر على الشارع والجماهير والسياسة بممارستها ومؤسساتها ..

وبالفعل خاض هذا التيار العمل العام كله دامجا بوضوح بين الطريقين القديمين ..لكن وكما يحدث دائما ..سنجد أن الأفكار وهى في إدراكات الوعى والتمني شيء .. ثم وهى في مدارات الواقع والضرورة شيء أخر تماما ..                ***

كل هذه الإشارات والعلامات بكل ما فيها من عبر واعتبار، يكاد يكون إنتاج التاريخ منها لا يٌعد ولا يٌحصى من نسخ التكرار المكرور .. وصدق من قال: ما أرانا نقول إلا رجيعا **ومعادا من قولنا مكرورا .. ولم يبق من كل ذلك للأسف  إلا شذى ضعيف، لزهرة كانت يانعة وكان الناس على استعداد لريها بذوب حياتهم.

***

ولأنها الأقدار التي نخطوها خطوا ونمشيها مشيا .. ولأننا نؤمن يقينا أن الله بكل شيء محيط .. ونتحرك كلنا في رحاب أقدار الله التي لا نعرفها 

ولم يصبر فيها سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح لأكثر من ثلاثة مواقف.. حتى أن البخاري رضى الله عنه روى لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر، حتى يقص علينا من أمرهما)..

***

يقولون أن الأفكار تتطور وتنضج بعد الحوادث .. لكن وكما يقول الشاعر: لم أرى إلا واضعا كف حائر**على ذقن أو قارعا سن نادم .. فالحاصل أن رجال الإصلاح (الكبار)..منهم من عض على بنان الندم، وأبرا ذمته من خطا الدوران يمنة ويسارا، وأعلن صراحة خطأه في (فهم) الترتيب الذى كان يجب أن يكون: الناس الطيبين أم السلطة والحاكمين، وقال لأصحابه المقربين رحمه الله (إذا عاد بي الزمن لفعلت كذا وكذا ..)

ومنهم من قال علانية (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم.. تقم على أرضكم) والحمد لله وحده، أنهما قالا ذلك، ليبقى ما قالوا يصدح في العالمين، فالدنيا ليست خمسين سنة ولا سبعين سنة .. أعمارنا فقط هي التي كذلك!.. 

وسيبقى لهم ولنا صدقهم، بعد أن قضوا نحبهم ..وذهبوا إلى ربهم ..الذى سيسأل الصادقين عن صدقهم!! نعم .. الصادقين.. ولنقترب هنا بهدوء من واقع موبوء، وقبل أن تتراجع إشراقات الحياة فينا لصالح الموت العام، وسنقول مع جمال حمدان (ت/1993م) رحمه الله: نذكر عيوبنا لنسحقها، لا لننسحق بها ،ولنطهر نفوسنا ،لا لنسيء اليها ..       

***

فالحاصل أننا سنعرف أنه مهما كانت ترتيبات العصر الأنجلو/ أمريكان في شأن الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب العالمية ث. سنة 1945م كما قال لنا الكاتب الأمريكي من أصل هندي (بانكاج ميشرا) فى كتابه الهام جدا (زمن الغضب) الذي صدر عن عالم المعرفة(505

مهما كان من أمر هذه الترتيبات، والتي أنتجت الواقع الذى عاشه (الشرق الأوسط) كله من سنة 1945م .. بإسرائيله بانقلاباته باختراقاته .. فغاب من كان لابد أن يغيب، وصعد من كان لابد أن يصعد ..إكمالا لهذه الترتيبات. 

لكن الأهم هنا وما يعنينا نحن أساسا.. هو ما لاحظناه من حرص واضح على ضرورة حرمان هذه البقعة من الأرض من أهم رصيد استراتيجي لها.. وهو (الأمة الصاعدة)... خزان القيم العميقة المتأصلة ..             

الرجل الطيب الذى قال شعار (إقامة الإسلام في القلوب) كان قد بدأ في التقاط ريح (فرعون القادم) مبكرا ومبكرا جدا، ولأنه كان يعرف أن(الفرعون) لن يكون له (كيان) إلا في أجواء الفساد الأخلاقي، لذلك فقد كان يسارع الزمن، من أجل أن يفوت الفرصة عليه ..

فقال مقولة (الكمال الأصلي) هذه وذهب رحمه الله.

وأقول للمرة الثانية الحمد لله أن قالها، وأبرأ ذمته، ومن يريد لذمته الإبراء من بعده .. لكن ليس بعد .. 

***

صحيح أن التحالف الأنجلو/ أمريكان بكل اختراقاته العميقة هنا وهناك ..والتي ظهرت بقوة في السبعينيات.. ورأينا معارك دينية/اجتماعية بالغة الحذلقة وغريبة ومعوقة، ولم تعرفها الحركة الإصلاحية في عز قوتها في الثلاثينيات والأربعينيات مثلا .. 

وللطرافة سنجد هنا  أن تعبير (الإسلام السياسي) الذى سيطقطق.. طويلا طويلا.. غربا وشرقا لم نسمعه أيضا، في عز قوة المفكرين العظام والساسة الكبار وقتها (العقاد وطه حسين واحمد أمين // النحاس باشا و مكرم عبيد الخ).. عمالقة الفكر والسياسة في هذا الوقت لم ينطقوا به.

بما يوحى أنه كان مٌصنع تصنيعا .. ومٌجهز تجهيزا ..لواقع سيتم تصنيعه تصنيعا ويجهز تجهيزا.. لتدخل (الأمة) كلها في (معمعان) معركة شرسة ومريبة ومليئة بالضحالة وانعدام الغاية.. وانعدام الأخلاق أيضا.

ومعروف أن مصطلح (الإسلام السياسي) من تصنيع ميشيل فوكو(ت/1984م) الفيلسوف الفرنسي الشهير والذي أوفدته الدوائر المخابراتية الغربية إلى إيران سنة 1979 م بعد ثورتها الشهيرة وكتب كتابه المعروف (المقالات الإيرانية) واطلق ما يعرف بالروحانية السياسة والذى تم تسويقها بعدها بذلك المصطلح اللئيم الإسلام السياسى .. 

الحاصل أن الظاهرة بدأت تقلق كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. وبما جعل العلامة ا.د/ حامد ربيع أستاذ أساتذة الأمن القومي العربي والعلامة ا.د/جمال حمدان أستاذ أساتذة الإنسان وأرض الإنسان .. وكبار العلماء والمفكرين (الشيخ الغزالي وطارق البشرى وفهمي هويدي وخالد محمد خالد ومصطفى محمود..الخ) 

جعلهم يصرخوا من هذه (الظواهر المفزعة) التي ستبعد الأمة عن أهم ينبوع أخلاقي لها ..(الإسلام) .                 

ولأن جمود الواقع يجمد الفكر.. فقد حدث ما توقعوا .. 

ولم ننتبه جميعا !!.. 

و بالأخص..أولئك الذين يبحثون دائما عن الشيء الخطأ، في المكان الخطأ، وبكل الطرق الخطأ.

و ما عجبت من أحدوثة إلا ورأيت بعدها أعجوبة.                                                         

والأن وبعد كل الثغرات التي انفتحت في جسم المجتمع .. ها نحن جميعا نقف حيارى .. وحيث لا ندرى ماذا نصنع بأنفسنا.. ولا بالواقع الذي يطلب من يصنعه؟ ولا يجده.