هشام الحمامي يكتب: محركو العرائس الكبار.. (الغرفة السرية المغلقة)!!

ذات مصر

لا شك أن أغلب الناس تابعوا حادثة مصرع يفجينى بريجوجين(23/8/2023م) قائد ميليشيا فاجنر .. وأغلب الظن أنهم تابعوها بكثير من الملل، وقليل من الاهتمام، رغم حرص وسائل الإعلام العالمية والتي تتحرك من الغرفة المغلقة(غرفة محركوا العرائس) على جعل هذا الخبر فوق رأس الأخبار الساخنة، التي تتصدر كل نشرات الأخبار..! 

من يهتم؟ وإذا اهتم فلما يهتم؟ وما عائد اهتمامه عليه وعلى حياته اليومية؟ انه خبر.. وإنه لخبر تافه ..بمقاييس الرصانة والجدية والمعنى خبر تافه ومفهوم قصته من أوله لأخره.. 

بل ان هذا من أتفه الأخبار الذى تلقاها الناس من بعد خبر ازمه طلاق الأمير هارى و ميجان ماركل !!..  والذى هو أيضا تافه.. 

الكاتب التشيكى/ الفرنسي الشهير ميلان كونديرا(ت/2023م) له رواية جميلة اسمها (حفلة التفاهة)  .. حيث الجميع غارقون فى التفاهة والاهتمامات السخيفة المليئة بالإثارة والمتعة العابرة الزائلة التي لا تبقى أى أثر بعد انتهائها ..  وتستمر العاصفة، عاصفة الإثارة التافهة .. فلا وقت للتأمل ولا وقت التفكير ولا وقت للتحليل.. ولا وقت للسؤال ولا للفهم.. 

***

وإذا وجد البعض فرصة للتساؤل والشك .. فإنهم يتحولون إلى مجرد مجموعات ضالة، تفكر عكس التيار وتخالف المجموع العام، ويبدون مغفلين ومجانين ولا يفهمون، وفى النهاية قد يضطرون إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم. 

فكرة التلاعب بعقول الناس فكرة قديمة  حطت على أم رأس البشرية المسكينة من بعد الحرب العالمية الثانية(1945م) ، والتطور التكنولوجي الكبير في وسائل مخاطبة الجماهير الغفيرة الذى صاحبها.. 

طبعا الكاتب الإنجليزي الشهير جورج أورويل (ت/1950م) كان من أوائل من توقعوا هذا الخطب وهذه الكارثة  في كل ما كتب وليس الأخ الكبير فقط .. الدوس هيكسلى (ت/1963م) مواطنه الشهير كتب أيضا في هذا المعنى قصته الشهيرة (عالم جديد شجاع جريء).

***

لكن كتاب هربرت شيللر(ت/2000م) الأستاذ فى جامعة كولومبيا (المتلاعبون بالعقول) مع عنوان جانبى أخر (كيف يجذب محركو العرائس الكبار في السياسة والإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟).. له زاوية نظر أقوى. وأكثر وضوحا.. 

الترجمة الحرفية للكتاب صدرت بعنوان (مديرى العقول) أصدرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية العريقة (العدد106) وترجمة الأستاذ عبد السلام رضوان _رحمه الله_ عام 1986 .

الفكرة العامة للكتاب تدور حول حقيقة مؤكده تقول: انه أمام الضغط الإعلامي المتكرر لا يجد الجمهور فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، ويقدم إليه الوعي جاهزا ولكنه وعي مبرمج، ومعد سابقا وباتجاه واحد مرسوم ..

على ان يتم ذلك كله بدهاء وتحت غطاء من(الديمقراطية) والحياد .

تضليل وبرمجة (عقول البشر) ما هو إلا تطويع (الجماهير) للأهداف والسياسات السائدة، حتى يتم ضمان تأييد النظام السياسي والسلطة، بغض النظر عما إذا كان هذا النظام يعمل للمصلحة العامة أو ضد الصالح العام للشعب!! 

سنتذكر هنا مسرحية عدو الشعب للكاتب النرويجى الشهير هنريك إبسن(ت/ 1906م ) حيث الدكتور (ستوكمان) الرجل الطيب الذى حاول كشف الفساد فى المدينة ، فتم تحويله فى عقول الشعب إلى عدو الشعب !

***

هم عادة لا يلجئون إلى التضليل إلا عندما يبدأ الجمهور في الاستيقاظ، والظهور على الساحة، لكي يصحح مسار الأمور.. أما عندما يكون الجمهور مضطهداً غارقا في همومه الذاتية وملذاته الشخصية فدعه ينام بسلام.

شيللر سيحدثنا أيضا في كتابه عن (الأيديولوجيات المستترة)  ..الأفكار والتنظيمات ذات الطبيعة الدينية والعقائدية .. محاولا فضح المصالح الحقيقية المخفية وراء خطابها ورسائلها الإعلامية المزدوجة ..ولهذا حديث طويل طريف..***

ابحث عن (الثروة والسلطة والقوة) والاحتفاظ بها وتكريس وضع من فيها وعليها .. هكذا يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو (86 عاما) صاحب الكتاب الشهير (شرنا يأتى مما هو أبعد).. والذي يعتبر الآن فى فرنسا وأوروبا من اهم الوجوه الفكرية والفلسفة.. والمهتمة بالدفاع عن الإنسان وقيَمه الكبرى.

أكد أن هناك عصابة تتحكم في العالم تكونت من الهيمنة على رأس مال ضخم جدا و الذي تجاوز أفق الدولة .. ولاحظ التوصيف !.. 

هذه العصابة (هى فى حقيقة الأمر شركات ومؤسسات وبنوك وأندية وبيوت أزياء...الخ) وتدير الأمور كلها بطريقة إجرامية تامة تستخدم كل أدوات الإجرام التقليدية ..من الرشوة الظاهرة والخفية الى القتل المتعمد والخطأ..!. 

هذه العصابة تجلس كل يوم بعد العصر في (الغرفة السرية المغلقة) ..!! وهذه الجملة من عندى ، لا من عند عمنا باديو..! 

***

وفى النهاية ستكون الصورة(أقلية) تملك كل شيء..و(طبقة وسطى) تتقاسم الفتات ، و(حشود هائلة) من البشر لا مكان لها في العالم.. ثم يقول: لقد أصبحت الجماهير منقادة ومقيدة بالإلحاح الإعلامي ورسائل التضليل المتنوعة .. وهكذا يبقى الجمهور في دوامة من الأحداث والتدفق الإعلامي والإغراق فى التفاهات..

ما الحل أمام تلك المعضلة العضيلة؟.. إنها (السلطة المضادة) كما يقولون.. سلطة أخرى، تواجه كل هذه الحرب غير المعلنة على البشر.. أى (المجتمع المدني) وحركات الحقوق وجمعيات التثقيف والتوعية .. والعمل اليومى للارتقاء بمستوى النقاش العمومي بين الناس وفي تنمية مستوى (الذكاء العام) وتوسيع دائرة التنوير العام.

رون ديسانتيس (45سنة) حاكم فلوريدا و المرشح الجمهورى لرئاسة الجمهورية.. قال جملة جميلة في خطاب له من ثلاثة أيام: ( لابد من وقف حالة الانحطاط التي نراها ).. هو يتحدث بالطبع في سياق حملته الانتخابية.. وفى سياق توصيفه لترامب الذى يزمع الترشح ثانية .. كن العبارة يتسع معناها إلى ما هو أبعد وأبعد>. نحن أمام معركة وحرب حقيقية غير معلنة (ضد الإنسان) والقيم الإنسانية وفضائلها الأخلاقية..