كيف تطور وجود تنظيم "داعش" في الفلبين؟

منذ اللحظة التي أعلن فيها "أبو بكر البغدادي" الخلافة في منتصف عام 2014، توالت سلسلة من التعهدات بالدعم التام للتنظيم في دولة الفلبين، وظل هذا الدعم قائما حتى قُتل البغدادي، إذ لم يؤثر ذلك الحدث على ولاء الداعمين لداعش في الفلبين.

ففي أعقاب مقتل البغدادي في أكتوبر 2019، أطلق التنظيم حملة دعائية سعى فيها إلى تعزيز التعهدات لزعيم التنظيم الجديد أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، وذلك في كل من فروع التنظيم في الفلبين وإندونيسيا. وذلك تأكيدًا على الوجود العالمي للتنظيم، وتعزيزًا لولاءاته حول العالم، خاصةً في ظل خسائره الإقليمية الكبيرة التي تكبدها في العراق وسوريا، وللتأكيد أيضًا على كون الفلبين لا تزال مهمة بالنسبة للتنظيم حتى بعد مقتل البغدادي.

وكجزء من سلسلة التقارير التي ترسم وجود داعش في جنوب شرق آسيا، تأتي دراسة صادرة عن "مركز مكافحة الإرهاب" بعنوان "الصعود في الشرق: تطور الدولة الإسلامية في الفلبين" أعدها أميرة جدون ونكيسا جهانباني وشارمين ويليس، لتتعقب تطور وجود التنظيم في الفلبين في الفترة بين يناير 2014 ويوليو 2019.

كذلك تُسلِّط الضوء على العوامل التي أسهمت في ظهور داعش في السياق المحلي للفلبين، وكيف أعاد تشكيل خريطة الجماعات المتشددة؟ وإلى أي مدى بلغ حجم التهديد الذي شكله من الناحية العملياتية في الفلبين؟ وذلك اعتمادًا على بيانات مفتوحة المصدر.

 عناصر داعش في الفلبين

 

نقطة التحول وعوامل تعزيز النفوذ

مثّلت معركة "مراوي" أهم حدث مرتبط بداعش في الفلبين، فقد وضع التنظيم منطقة جنوب شرق آسيا وبالتحديد مدينة مراوي، محط أنظاره، كمحور لتمرد جهادي إقليمي وعالمي جديد، خاصة بعدما فقد التنظيم جزء كبير من أراضيه الأصلية في العراق وسوريا.

ففي مايو ٢٠١٧، قام مسلحون تابعون لجماعة "أبو سياف" وجماعة "ماوتي" -المدينين بالولاء لتنظيم داعش- بالاستيلاء على مدينة مراوي في مقاطعة "لاناو ديل سور" ذات الأغلبية المسلمة، رافق الاستيلاء على المدينة واحتلالها دعاية صارمة للتنظيم، والذي توقع نجاح العملية.

وقد بلغ عدد أولئك المسلحين نحو ٦٠٠، من بينهم متمردون محليون ومقاتلون أجانب، واستمرت العملية قرابة خمسة أشهر، وخلّفت وراءها آثار الموت والدمار، إلى أن حرّرت القوات المسلحة الفلبينية مدينة مراوي في أكتوبر من عام ٢٠١٧.

وقد تضافرت جملة من العوامل سهّلت من وجود التنظيم في الفلبين، يمكن استعراضها على النحو التالي:

  1. توحيد الجماعات الجهادية:

من أجل تثبيت دعائم التنظيم في الفلبين، فقد سعى إلى تغيير المشهد الجهادي هناك، عبر توحيد الجماعات المتفرقة تحت شعاره، وفي سبيل ذلك قدّم التنظيم حوافز متباينة للجماعات المختلفة ومقاتليهم، وذلك لتشجيعهم على التعاون مع بعضهم.

ورغم ارتباط جماعات محلية مسلحة -كجماعة أبو سياف- بمسلحين متعددي الجنسيات تابعين لتنظيمات كالقاعدة، فإن الاختلافات العرقية والعائلية بين الجماعات الإسلامية المحلية أسهمت -في كثير من الأحيان- في ثني تلك الجماعات عن التعاون مع بعضها.

لذا، جعل داعش تشجيع تلك الجماعات على مبايعة "الدولة الإسلامية" هدفًا محوريًا من أجل التغلب على الانقسامات التقليدية وخلق تحدٍ جماعي هائل أمام جهود مكافحة الإرهاب، وهو ما نجحت فيه بالفعل.

 الأمن الفلبيني

 

  1. استقدام المقاتلين الأجانب:

عمد داعش إلى استقدام مقاتلين أجانب، جاء الكثيرون منهم من إندونيسيا وماليزيا، بغرض الاستفادة من مزاياهم العديدة، كـ"عدم التقيد بالروابط العائلية والعشائرية الفلبينية، وإمكانية التحرك والانتشار بسهولة بين الجماعات المحلية المختلفة، وقدرتهم على تقديم الخبرة والاتصالات الدولية وربما التمويل".

وقد اختلفت التقديرات حول عدد المقاتلين الأجانب المرتبطين بتنظيم داعش في الفلبين، لكن التقديرات الحكومية الفلبينية تشير إلى وجود نحو 40 مقاتلاً أجنبيًا شاركوا في معركة مراوي.

  1. المشهد الاجتماعي والسياسي:

شكّل الصراع العرقي والديني والتهميش أهم الدوافع الرئيسية لتفشي العنف في مينداناو (ثاني أكبر جزر الفلبين)، وذلك بين أقلية مسلمة لا تتعدى نسبتها نحو 11% من إجمالي السكان، وأغلبية كاثوليكية كانوا قد هاجروا على نطاق واسع إلى تلك البقعة الأقل كثافة سكانية خلال الفترة الاستعمارية والحكم الأمريكي للفلبين.

عمد أولئك المستوطنون إلى تشريد الفلاحين المسلمين المحليين، مما تسبّب في تراجع أعداد المسلمين مقابل تزايد أعداد المسيحين الذين استولوا على الأرض، الأمر الذي خلق ديناميكية اجتماعية غير مسقرة تسبّبت في صراع على الأرض بين كلا الجانبين، الوضع الذي استغله تنظيم داعش لإرساء دعائم وجوده في الفلبين وشن هجماته فيها ومن خلالها.

 قوات أمن فلبينية

 

الاتجاهات العملياتية

يمكن النظر إلى الأنشطة المرتبطة بتنظيم داعش في الفلبين، خلال الفترة بين يناير 2014 ويوليو 2019 من خلال مجموعة من الاتجاهات العملياتية، والتي تتلخص في:

  1. تطور النشاط

في نوفمبر 2015، وقعت أولى الهجمات المرتبطة بتنظيم داعش في الفلبين في جنوب محافظة سلطان قدرات، أسفرت عن مقتل 8 أشخاص.

كانت الجماعة المحلية المُنفِّذة للعملية هي جماعة أنصار الخليفة-الفلبين، التي مثّلت واحدة من أولى الجماعات الفلبينية التي أعلنت الولاء لتنظيم داعش.

وخلال عام 2016، زاد عدد الهجمات بشكل كبير من واحدة في 2015 إلى 17 هجمة، أدت إلى مقتل 158 شخصا وإصابة 195، وقد نُسبت تلك الهجمات إلى جماعات مختلفة جميعها تابع لتنظيم داعش.

لكن الحدث الأبرز والأهم لوجود التنظيم في الفلبين، تمثّل في حصار مدينة مراوي عام 2017 الذي استمر خمسة أشهر، وقُتل خلالها نحو 920 مسلحًا و165 جنديًا و47 مدنيًا، وتم إنقاذ أكثر من 1780 رهينة من قبضة التنظيم.

بيد أن إجمالي عدد الضحايا تقلّص بشكل كبير من 353 في 2016 إلى 193 في 2017، واستمر ذلك الانخفاض الكبير في أعداد الهجمات خلال 2018 أيضًا، ولعل ذلك يرجع على الأرجح إلى التداعيات السلبية لمعركة مراوي، وحاجة منتسبي التنظيم إلى إعادة البناء واستجماع القوى من جديد.

  1. الاتجاهات الزمنية

تشير البيانات مفتوحة المصدر إلى أن الفترة بين يونيو 2016 إلى يونيو 2017، كانت الأكثر تقلبًا والأعلى من حيث عدد الهجمات، ولعل تلك المستويات المرتفعة تترافق مع معركة مراوي التي بدأت في مايو 2017، وكذلك فشل مفاوضات السلام بين جبهة مورو الإسلامية للتحرير والحكومة الفلبينية في عام 2016، والتي كانت ستمنح الحكم الذاتي لـ"مينداناو" وجبهة مورو الإسلامية.

جدير بالذكر، أنه في عام 2017، كانت المرة الأولى التي تُصنِّف فيها وزارة الخارجية الأمريكية "الفلبين" من بين الدول الخمس الأكثر تعرضًا للهجمات الإرهابية.

  1. معدل الفتك

وفقًا للنتائج، فإن عام 2016 شهد أكبر عدد من الضحايا جرّاء هجمات تنظيم داعش، بينما كان عاما 2018 و2019 الأعلى من حيث معدل الفتك، وربما يعود ذلك إلى حدوث تحول في التكتيكات، كالميل إلى العمليات الانتحارية، وذلك في نهاية 2018 والشهور السبعة الأولى من 2019، وهو ما يتضح من خلال الرسم التالي:

[caption id="attachment_121030" align="aligncenter" width="1400"]

 شكل يوضح إجمالي أعداد الإصابات إلى أعداد القتلى جراء هجمات داعش خلال الفترة من 2015 إلى 2019[/caption] 

  1. معدلات نجاح عالية

يتضح من خلال البيانات، أن غالبية العمليات التي نفذتها فروع تنظيم داعش في الفلبين كانت ناجحة، بيد أن معدل نجاح العمليات في 2015 و2018 و2019 وصل إلى ما نسبته 100%، إلا أن تلك السنوات شهدت أقل عدد من الهجمات بواقع عملية واحدة في 2015، وخمس عمليات في 2018 وأربع في 2019. فيما سجل 2016 و2017 هجمات فاشلة بواقع عملية واحدة فاشلة لكل منهما.

[caption id="attachment_121033" align="aligncenter" width="524"]

 شكل يوضح عدد الهجمات المرتبطة بداعش سنويًا من حيث عدد العمليات الناجحة والمُحبطة[/caption]

 

  1. أنواع الأهداف

مال المسلحون المرتبطون بتنظيم داعش إلى تركيز هجماتهم على أهداف تابعة للدولة، مثل الجيش وقوات الأمن المحلية في عامي 2015 و2016.

وفي عامي 2017 و2018، قام 247 مسلحا على صلة بتنظيم داعش، بالتحول في نوعية الأهداف التي تشن عليها هجماتها، من أهداف تمس الدولة إلى أهداف مدنية، بعضها يضم مسيحيين، ولعل معركة مراوي مثّلت نقطة التحول في ذلك.

فيما قسّم المسلحون هجماتهم بالتساوي في السبعة أشهر الأولى من عام 2019 بين أهداف حكومية ومدنية، غير أنه في المجمل كانت قوات الأمن العسكرية والمحلية الهدف الأهم والأبرز بالنسبة للمقاتلين.

[caption id="attachment_121034" align="aligncenter" width="512"]

 شكل يوضح نوع الهجمات التي عمد المسلحون إلى استهدافها خلال الفترة من 2015 إلى 2019[/caption] 

  1. التحول في التكتيكات

تشير البيانات إلى تحول مثير للقلق في تكتيكات الجماعات التابعة لتنظيم داعش في الفلبين، فبينما اعتمد أولئك المسلحون خلال 2015 و2016 و2017 على تكتيكات القصف بنسبة 100%، شهد عام 2018 تحولا جزئيا إلى الهجمات الانتحارية بنسبة 20% من إجمالي الهجمات، غير أن 2019 مثّل العام الأكثر اعتمادًا على الهجمات الانتحارية لتصل إلى 75% من إجمالي الهجمات.

[caption id="attachment_121032" align="aligncenter" width="600"]

 شكل يوضح النسب المئوية لأنواع التكتيكات التي استخدمها مسلحو داعش في الفلبين[/caption]

إجمالًا، أدت حالة عدم الاستقرار المستشرية في مينداناو، لأن تكون الفلبين، وبالتحديد المنطقة الجنوبية من مينداناو، محور أغلب عمليات التنظيم في جنوب شرق آسيا.

وقد تضافرت عوامل سياسية واجتماعية وعسكرية عدة في ذلك الإطار، سهّلت من وجود التنظيم في الفلبين، وساعدته على كسب ولاءات الجماعات المسلحة فيها وتوحيدهم تحت رايتها، الأمر الذي يجعل الفلبين في بؤرة اهتمام التنظيم، حتى بعد مقتل أبي بكر البغدادي، لتصير منبر "الدولة الإسلامية" في جنوب شرق آسيا.

المصدر