هشام النجار يكتب: أسئلة «طوفان الأقصى» لعلاج داء «الحَوَل الجهادي»!

ذات مصر

من لا ينشرح صدره بانتصار يحققه المظلومون في الأرض في مواجهة ظالميهم وقاهريهم ومغتصبي حقوقهم وثرواتهم وديارهم ومقدساتهم، فهو يفتقر للفطرة الإنسانية السوية.
غلب الشعور بالفرحة عقب هذا العبور المصغر الذي حققه فلسطينيون في الذكرى الخمسين من العبور الكبير، دون الدخول في تفاصيل أو التطرق لتعقيدات المشهد، أو طرح أسئلة من قبيل: هل التوقيت مناسب، ولحساب أي قوة إقليمية جرى ما جرى، وهل هو ضار بالقضية الفلسطينية أم لا، وما ذنب الغزاويين والعزل عندما تصيبهم ضربات إسرائيل الانتقامية... الخ؟
فرحت الغالبية حتى أن كثيرين من المختلفين مع حركة حماس فرحوا؛ لأن المقاومة حق الشعوب المقهورة المسلوبة أراضيها والمطرودة من ديارها حتى تسترد ما جرى اغتصابه منها.
لدي -رغم ذلك ورغم كل شيء- العديد من الأطروحات ذات البعد الإستراتيجي كتبت ملخصاتها في هيئة برقيات سريعة ومختصرة وأنا أتابع باهتمام بالغ التطورات في فلسطين الحبيبة المحتلة وفي قطاع غزة.
ما دامت حركة حماس قد وكلت نفسها بمهمة بهذا المستوى من الضخامة، مُقصية شركاء في المقاومة والنضال، ومحتكرة لنفسها قرار السلم والحرب وتوقيتات التهدئة والتصعيد دون مشورة حتى القادة الفلسطينيين المعنيين بالقضية والمسؤولين هم أيضًا عنها أمام جزء معتبر من الفلسطينيين، فلابد من المساءلة، ولابد من تلقي إجابات شافية وكاشفة، كون كل العرب والمسلمين معنيين بالقضية -بل هي قضيتهم الأولى، ينفعهم ما ينفعها ويضرهم ما يضرها.
السؤال الرئيسي هو: أين موقع السلطة الفلسطينية مما حصل وهل هي شريكة أم أنها مُستَهدَفة لتهميشها ولقطع الطريق أمام مكاسب كانت ستجنيها من جهة كسب المزيد من الشرعية والدعم المادي والمعنوي، لو كان ما حصل في السابع من أكتوبر لم يحصل وسارت الأحداث طبيعية بدون مفاجأة حماس المُدوية.

ويعني سير الأحداث بشكل طبيعي انتظار ما كان سيترتب على تطوير تدخل قوى الاعتدال العربي عبر سياقات مختلفة عن سياقات ما يُعرف بمحور المقاومة الذي تتزعمه إيران، بمعنى تفكيك إشكاليات والتوصل لحلول واقعية وحل لأزمات ومعضلات تخص القضية والشعب والمقدسات والأرض، بتسويات سلمية ترضخ لبنودها تل أبيب تحت ضغط الحاجة لشركاء عرب وللخروج من وضعية الحرب الدائمة والشعور بالتهديد الدائم، وهذا سينعكس على الفلسطينيين عبر تخفيف الضغوط عليهم وتحسين أوضاعهم وأخذهم لبداية طريق تأسيس دولتهم واسترداد كرامتهم وتأمين مقدساتهم.
فهل شُنت هذه الحرب للحيلولة دون السير في هذه السيناريوهات ولقطع الطرق عليها، حتى لا تقوي نفوذ وحضور صانعيها العرب والمحليين ومن ضمنهم سلطة
الضفة الغربية، وهو ما كان سيكرس معادلات جديدة تقلص نفوذ وحضور مكونات ما يُعرف ب(محور المقاومة) بداية من الرأس والمركز وصولًا إلى الأذرع والأجنحة؟
وإذا كان التوصل لحلول معقولة ومُرضية تحافظ على الثوابت الفلسطينية والعربية وعلى المقدسات وحقوق فلسطيني الشتات عبر هذه الطرق وبجهود هذه القوى والأطراف كان ممكنًا، ألم يكن أجدى وأنفع من الحلول الصراعية الصفرية التي تمكن إسرائيل –مهما كانت خسائرها- من اللعب بخيوط عدة ومن التلويح بالعبث بالثوابت الفلسطينية والسعي للعصف بالمكتسبات الضئيلة التي تحققت، ناهيك عن امتلاك المسوغ (غير الأخلاقي) –أمام الرأي العام العالمي- لضرب غزة بلا هوادة ولا رحمة وتدمير بنيتها التحتية المنهكة أصلًا؟
تقودنا هذه الأسئلة للنقاش حول فعل المقاومة ذاته؛ هل هو احتكار فئة بذاتها وأيديولوجية بعينها وطائفة لوحدها دون البقية؟
تخيلوا لو كانت المقاومة الفلسطينية على قلب رجل واحد متضمنة كل التيارات والمشارب والتوجهات تتوحد تحت رايتها كل مكونات الشعب الفلسطيني، ولو لم يكن هناك انقسام وصراع داخلي على سلطة وهمية، وتخيلوا لو كانت المقاومة بطول وعرض الجغرافيا الفلسطينية وليست محدودة داخل نطاق جغرافي محدود ومعلوم للجميع؟ تخيلوا وتوقعوا النتائج...
المقاومة الشعبية حق لجميع أفراد وطوائف وفئات الشعب المحتلة أرضه ومقدساته، وهي لا تنجح إلا إذا انتشرت بطول البلاد وعرضها وبكل الوسائل والأسلحة فلا يعلم الغازي المُحتل من أين تأتيه الضربات، وهكذا حرر المصريون والجزائريون بلادهم من الإنجليز والفرنسيين.
أما أن تحتكر مجموعة على خلفية أيديولوجية فعل المقاومة وتحدد مكان تجمعها داخل بقعة جغرافية بعينها، وتستبق الأحداث وتجعل السيطرة على السلطة قبل تحرير الأرض واستعادة الحقوق، فهذا كله يخدم المحتل المستفيد من الانقسامات والذي يعلم -حتى لو أتته الضربة مباغتة وحتى لو آلمته- من أين أتته، فيذهب بكل قسوة للانتقام ولسحق من فيها.
شخصتُ في السابق حالة التنظيمات التي تصف نفسها زيفًا بالجهادية (والجهاد بريء منها) بأنها مصابة بداء (الحَوَل الجهادي) كونها ضربت وتضرب في عمق الدول العربية والإسلامية تاركة العدو الصهيوني الذي يحتل الأرض والمقدسات ينعم بالراحة والاستقرار والهدوء، ولا تزال حركة حماس مصابة بمضاعفات هذا الداء وان استهدفت العدو بهجوم فائق غير مسبوق، كونها نسقت مع قوى إقليمية غير عربية لا يهمها تحرير الأرض والمقدسات بقدر ما يهمها الإيحاء لأمريكا وإسرائيل بأن لديها من الأوراق ما تستطيع الضغط والإيلام به لتحقيق مصالحها وأهدافها الخاصة.
ولكونها (حماس) لم تنسق مع المعنيين الأصلاء بالقضية الذين حاربوا وناضلوا وقدموا تضحيات لتحرير الأرض ولتمكين الفلسطينيين من نيل حقوقهم وعدم العبث بثوابتهم وعدم تصفية قضيتهم، ولأنها لم تنسق مع الشركاء والفرقاء المحليين، مُختطفة القرار من الجميع، واضعة المنطقة رهينة المجهول.
المقاومة في نظري والتي تكتمل معها فرحتي هي التي تقود لانتصار وإنجاز حقيقي على الأرض، وهي التي بدأها الفلسطينيون جميعًا وبرعوا فيها (قبل التصنيفات والانقسامات وقبل شق الصف الوطني بكيانات مؤدلجة)، فكان كل الشعب يقاوم بطول فلسطين وعرضها رجالًا ونساءًا وشبابًا وأطفالًا، وأبهروا العالم وأجبروا الجميع على احترامهم والإشادة ببطولاتهم وبسالتهم، ونجحوا في كسب تعاطف كل الدول وغالبية شعوب الأرض، ولم تجرؤ منظمة أو هيئة دولية على إدانتهم أو شجب أفعالهم أو وصفها بأنها إرهابية وهمجية، كونها حق مشروع يمارسه شعب مضطهد ضد محتل غاصب.
أما أن يحتكر تنظيم مؤدلج صفة وفعل المقاومة مختطفًا القرار والسلطة خالطًا الأوراق وذاهبًا للارتباط بمحاور، يُحجم وقت الإحجام ويضرب وقت الضرب لا بناءً على تنسيق داخلي وطني إنما من منطلق توجيهات إقليمية وولاءات أيديولوجية؛ فهذا ما يمهد ويسمح بصبغ مشروعية دولية لما ترتكبه إسرائيل من فظائع وجرائم.
ورغم أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب وعملية تطهير عرقي في غزة وحصنتها أمريكا عسكريًا بالبوارج وحاملات الطائرات كي تنفرد بالفريسة وتجتاح غزة بريًا، فإنها بسبب تصرفات حماس الأحادية وقراراتها التي اتُخذت خارج المظلة الوطنية استطاعت أمام العالم أن تظهر كمن يدافع عن نفسها دفاعًا شرعيًا (وفقًا لتصريحات وردود أفعال غالبية المسؤولين ورؤساء الدول في الغرب)، وأنها تخوض حربًا متكافئة لا احتلالًا واغتصابًا للأراضي وانتهاكًا للأعراف الدولية وفصلًا عنصريًا
وتطهيرًا عرقيًا وقمعًا في حق مقاومين وطنيين.
اقتضت مصلحة فلسطين ومصلحة القضية ومصلحة الفلسطينيين في الداخل والشتات ومصلحة المقدسات والقدس والأقصى ابتعاد حماس تمامًا وعدم تدخلها (أو أن ينضوي عناصرها داخل حالة مقاومة وطنية جامعة وتنهي الحركة الصراع على السلطة حتى تحرير الأرض وإنقاذ المقدسات وتربط غزة بكل مدن وقرى فلسطين المحتلة وتحرر هي شعب غزة من الارتهان والأسر) حتى لا تقلب إسرائيل كل مرة القضية العادلة التي كان المفترض أن تتصاعد وتيرتها منذ أحداث القدس وحي
الشيخ جراح وصولًا لانتفاضة شعبية عارمة مرعبة بتعاطف ودعم عربي ودولي، إلى قضية مصالح أيديولوجية ومواجهة إرهابيين مأزومين بغزة –وفقًا للرواية الإسرائيلية التي يرددها الآن غالبية قادة أوربا والعالم بعد هجمات 7 أكتوبر-.
لو أنفقت المليارات على مقاومة حقيقية كان ينبغي تركها في مسارها الشعبي الشرعي بدون تصنيفات وتقسيمات أيديولوجية وصراعات على سلطة وفصل بين الضفة والقطاع وبين فتح وحماس، لمنحت الزخم المطلوب وتحولت إلى قضية عابرة لحدود المدن الفلسطينية من شأنها توحيد الفلسطينيين ضد الاحتلال وانتهاكاته وممارساته القمعية العنصرية.
الآن انقلب كل شيء وتوفر لإسرائيل غطاء دولي لترتكب ما تشاء من فظاعات وجرائم حيث دبرت حماس خطة هجوم ولم توفر خطط دفاع، ولم تفعل وفقًا لموازين القوى على الأرض وبالنظر لقدرة الحلفاء على الحركة والفعل، سوى أنها شاغبت وأيقظت وحشًا كان نائمًا بضربة مؤلمة لكنها غير منجزة في الحسابات العسكرية والاستراتيجية، ولا تسهم في تطوير فعل مقاوم حقيقي، إنما أدى تدخل
حماس هذا إلى توفير ما من شأنه حتى تضييق نطاق الاحتجاجات الشعبية داخل المدن الفلسطينية إلى أضيق الحدود بعد أن كان مؤملًا اتساعها إلى نطاق شعبي أوسع دفاعًا عن الأقصى وطلبًا لكل الحقوق المسلوبة، علاوة على التسبب في فقدان التعاطف والدعم الدولي.