هشام النجار يكتب: نقاش مع قادة حماس حول مخالفة تكتيك الرسول العسكري

ذات مصر

يبدو أن إثنين هما من يتوليان مسؤولية وقيادة حركة حماس الآن بشقيها السياسي
والعسكري ويتحكمان في قرارها، (محمد الضيف قائد كتائب عز الدين القسام،
وصالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي للحركة).
سأدع كل شيء الآن رغم أن كل تفصيلة من وقائع الحرب منذ بدايتها في السابع من
أكتوبر الماضي ولو صغيرة تحتاج إلى نقاش ونقد وعصف ذهني ومساءلة
واستجواب، لأركز على نقطة أراها جوهرية للحكم على الأداء ولاكتشاف فداحة
الأخطاء وإلى أين توصل العشوائية والتعجل والانطباعية و(الجزافية) في اتخاذ
القرارات المصيرية، وكيف تؤثر ليس فقط في تحديد مصير شعب أو دولة بل في
مصير قضية كبرى ومصائر شعوب وأمة.
الحالة تتمثل في الدعوات التي أطلقها قائدا حماس وكتائب القسام (الضيف
والعاروري) منذ الساعات الأولى لانطلاق الحرب إلى الآن، والمتعلقة بتوجيه
الخطاب أولًا لكل الفلسطينيين في الأرض المحتلة للانضمام إلى حماس في قتالها
ضد إسرائيل، علاوة على توجيه رسائل للدول العربية وقادتها وشعوبها للقتال
بجانب حماس، والهدف كما تردد في تصريحات قائدي الحركة هو إذلال إسرائيل
وداعميها وتحرير الأرض والمقدسات وزلزلة الأرض من تحت أقدام اليهود وإلحاق
هزيمة منكرة بهم في ظرف أيام.
لا أدري ما هي المؤهلات التي تحصل عليها قائدا حركة حماس وهل درسا العلوم
العسكرية والاستراتيجية في أي أكاديمية أو جامعة متخصصة بهذا الشأن أم لا،
لكنني أتوقع ما داما يقودان حركة دينية إسلامية، فهما على الأرجح –بناءًا على هذا
الانتماء- قد درسا تاريخ وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي سبق
الأكاديميات في تعليم تلامذته أصول العمل العسكري والفكر الإستراتيجي.
لن أجادل في مسألة موازين القوى، فمن يقول أن إسرائيل تمتلك جيشًا على أعلى
مستوى من التدريب والتسليح والتقنيات، يستطيع أي أحد الرد عليه بأن الجيوش في
العموم ضعيفة في ميدان حرب العصابات، وأن تنظيم مسلح محترف من شأنه أن
يدوخ أعتى الجيوش، وأن حربًا برية مطولة في غزة قد تكون فخًا حقيقيًا للجيش
الإسرائيلي.

أنا أجادل هنا بشأن تلك الدعوة العجيبة الغريبة التي وجهها الضيف والعاروري
لعموم الفلسطينيين وللأمتين العربية والإسلامية للمشاركة في الحرب، بعد أن
اشتعلت شرارتها وبعد أن قامت أصلًا بتخطيط وقرار منفرد من قادة حماس، وبدون
علم من أحد ولا مشورة أحد وبدون إستعداد من أحد.
إذن ما حدث كالتالي: خطط قادة حماس للعملية وبالطبع يعلمون طبيعة رد فعل
إسرائيل وحلفائها، وبعد أن وقعت (الطوبة في المعطوبة) وبدأت الحرب فعليًا، دعا
قادة حماس أناسًا لا يدرون شيئًا عنها وعن أهدافها الحقيقية ولم يتوقعوها، ولهم
حساباتهم الخاصة وفقًا لإمكاناتهم وظروفهم، للمشاركة فيها والاصطفاف بجانب
حماس أو خلفها لتحقيق (وعد الآخرة) و(الزلزلة الكبرى) –كما ورد على لسان
الضيف)!
هنا توجد عدم معقولية ولا منطق، إذ كيف تدعوهم بدون استشارتهم وبعد أن وقعت
الواقعة واستعرت الحرب، وكيف تتخذ قرارًا كهذا منفردًا وأنت تعلم مسبقًا أنه لا
يتعلق بشأن يخصك وحدك؟
وحتى لو افترضنا فرضًا أنك كنت القائد؛ فقد خالفت أصول القيادة، ليس فحسب
وفقًا لما تدرسه الأكاديميات العسكرية، بل وفقًا للمناهج والتكتيكات التي درسها
الرسول لتلامذته وطبقها على أرض الواقع.
نقول ونشرح ونفصل باختصار وتركيز شديدين:
لحكمة إلهية بالغة أشرك الرب سبحانه الإنسان فخلقه في (كبد) أي في معاناة
متواصلة مع الواقع وتحدياته ومشاكله وتعقيداته ومستجداته، في سياق مهمة ليست
سهلة، ولا يتم إنجازها فقط بالدعوات والأمنيات والمثاليات، ليباشرها هذا القائد أو
ذاك بخيال مجنح أو مثالية مفرطة أو قرارات متعجلة أو تبسيط زائد وتسطيح
ساذج، في واقع بشرى معقد يموج بالإشكاليات المتشابكة والملفات المركبة
والصراعات الملحمية على الثروة والأرض والمقدس والنفوذ.
ومع واقع متغير أحداثه متسارعة متنوع المشارب والتوجهات، مليء بالصراعات
والعقبات، يحتاج الأمر إلى رجال كبار وقادة مُلهمين على قدر هذه المسئولية
الضخمة، فالقضية ليست بالبساطة والسهولة التي يتخيلها البعض، وإلا ما احتاج
الوحي إلى جهد بشر وما احتاجت الدعوة والإصلاح لتدخلات أرضية ولفرضها
رب السماء والأرض فرضًا وانتهى كل شيء.

أسأل هنا: لماذا يكرر القرآن "فتبينوا" ولماذا يؤكد على ضرورة العلم؟ انه العلم
الذي يتيح للإنسان فهم الواقع والتأقلم مع تحدياته والتغلب عليها، وقد أمده بوسائل
جمع المعلومات والتيقن من الحقائق والتثبت منها، من سمع وبصر وبصيرة وأكد
أن كل أولئك "كان عنه مسئولاً"، إذا ما انطلق في تجربة ما متعلقة بمشاريع
الإصلاح والتغيير، أو في خوض صراع محدود أو معركة مصير.
ليس من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إهمال تفعيل أدوات اختبار الواقع
ومراعاته، أو التحرك فقط من باب الأمنيات والتوهمات والظنون.
الانطلاق بعشوائية وجزافية والبناء على الظنون الوهمية حذر الرسول منه (إياكم
والظن فانه أكذب الحديث)، فهو وهم كاذب يسوق إلى الفشل والخسارة والتخبط،
سواء كانت القضية متعلقة بأمر شخصي أو عائلي أو مصلحة مجتمعية، أو متعلقًا
بقضية عامة وشأن يخص الأمة.
أنا على يقين وقناعة تامة بأن قائدي حماس وكتائب القسام (العاروي والضيف) قد
خالفا نهج وتكتيك الرسول العسكري، عندما قاما بدعوة الفلسطينيين والدول العربية
والاسلامية للانخراط في الحرب بعد انطلاقها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في
غزوة بدر استشار أصحابه من المهاجرين والأنصار أولًا وقبل البدء في أي شيء،
وأجرى استبيانًا واستفتاءًا وقياسًا للواقع الفعلي في تلك اللحظة قبل اتخاذ أي قرار.
ماذا كان يفعل الرسول هنا بلغة العصر؟
الجواب: انه يقوم بدراسة الموقف وتقديره بناءًا على حقائق ملموسة على الأرض.
وأسأل قادة حركة حماس وكتائب القسام: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم فى
حاجة إلى ذلك وهو يعلم علمًا مسبقًا بأنهم سيستجيبون له، بحسب ما يلجأ إليه
الكثيرون اليوم ممن يتصدون لتصدر المشهد، باستدعاء مواقف وتصورات سابقة
وإسقاطها مباشرة على موقف حالي، دون إجراء دراسة جديدة لاستبيان حقيقة
التغيرات وميزان القوة الفعلي على الأرض؟
هل كان في حاجة إلى هذا الاختبار الواقعي الآني وقلبه صلى الله عليه وسلم يخبره
أنهم معه وسيدعمونه وسيكونون بجواره في معركته ومواجهته مع المعتدين، بحسب
ما يلجأ إليه كثيرون اليوم من "تقديرات عاطفية انفعالية غير مبنية على واقع"؟

هل كان في حاجة لذلك وبمقدوره أن يدرس الموقف بناءًا على تقديرات نظرية بينه
وبين نفسه ومع المقربين منه؛ بأنه لو أطلق نداءه لاستجاب له تقديريًا هذا العدد من
أصحابه أو أقل أو أكثر، وفق السلوكيات الانطباعية؟
نعم كان في حاجة لذلك صلى الله عليه وسلم.
لأنه قائد يدرك جيدًا حجم المسئولية الضخمة الملقاة على عاتقه، فلا يتحرك بشكل
انطباعي عشوائي، ولا انفعالي عاطفي، ولا بتقديرات وأحكام مسبقة جزافية.
ولأنه يدرك أن التحديات والتفاعلات والظروف المحيطة تستوجب دقة في تصوير
الواقع وتشخيصه، ومن ثم الانطلاق من أرضية صلبة متماسكة مبنية على حقائق
ثابتة تم تجريبها واختبارها مرات تلو مرات قبل الدخول بها في معتركات الواقع
وتشابكاته المعقدة.
وهذا هو الفارق بين قائد يعيش الواقع فعليًا وقائد مغيب عنه، وبين حركة وتيار
يكابد الواقع ويتفاعل معه وآخر مغيب عنه، ولذلك احتلت الواقعية مكانًا مهمًا من
اهتمام المفكرين والأصوليين.
تغيب حركات التغيير والإصلاح والدعوة والمقاومة والنضال عن الواقع، بغياب
الرؤية الإستشرافية واعتبار المآلات والنتائج، وبالاعتماد على الأحكام المسبقة دون
استصحاب المستجدات والمتغيرات وقياسها واختبارها بالوسائل المتاحة، وبالاعتماد
على الوسائل الانطباعية الجزافية والظنون والأمنيات.
هذا يفوت فرص الانجاز، ويعود بالضرر الفادح على مسيرة الأمم والأوطان
ويؤدى لفقدان الثقة فى القيادات وإمكانياتها، فضلًا عن تمكين الخصوم والأعداء من
تحقيق انجازاتهم وانتصاراتهم فى مساحات فشل وعجز (المناضلين) وأصحاب
القضايا ذوي الخبرة والكفاءة المحدودة.
ما نتائج هذا الأداء البعيد تمامًا عن المعقولية والمنطق والمخالف (لا أقول للمناهج
التي تُدرس في الأكاديميات العسكرية والإستراتيجية) بل للمناهج والتكتيكات التي
طبقها الرسول، وما دامت حماس تقدم نفسها كحركة مقاومة (إسلامية) فأنا أحدث
قادتها من منطلق ديني، ومن أرضية تستلهم تعاليم ودروس الرسول وهو المعلم
الأول لي ولكل المسلمين.
النتائج كارثية على كل المستويات.. راجعوا معي عبر (فلاش باك سريع)؛ كيف تم
إفراغ المقاومة من مضمونها لحساب بناء الإمبراطوريات وصراع المذاهب

وللباحثين عن انتصارات طائفية وعرقية وأمجاد شخصية، وكيف فقدت بعض
الأوطان العربية هويتها ومصادر قوتها وتحولت شعوبها إلى مجموعات من
اللاجئين، يتفرج العالم على مآسيهم اليومية، وكيف تحول العرب في أهم معاقلهم
التاريخية إلى مهجرين ولاجئين، وكيف صارت دولة لفلسطين بعيدة المنال بعد أن
صارت (دولة سوريا) و(دولة العراق) و(دولة ليبيا) و(دولة اليمن) رهن إرادة
القوى الدولية والقوى الإقليمية غير العربية التي تخدم شاءت أم أبت مصلحة
إسرائيل حتى لو زعمت إحداها محاربتها في الظاهر.
راجعوا الآن كيف أننا نسمع شعار تحرير فلسطين كلها واستعادة الأقصى فنفرح
بعاطفتنا، لكننا سرعان ما نغرق في خيباتنا التي يسببها من تصدروا لقيادة
(المقاومة)، وبدلًا من تحرير القدس والأقصى وفلسطين، نكاد نفقد غزة، وتُهدد من
جديد سيناء.
وللأسف لدى الغرب وإسرائيل ميزة التفكير الواقعي، بل وأيضًا المؤامراتي، الذي
مكنهم من استنزاف الدول الوطنية العربية وجيوشها وتغيير الهندسة الاجتماعية
للشرق الأوسط والعبث بالنسق السياسي للدول العربية واستبداله بنسق مذهبي
يمكنهم من فرض خرائطهم الديمغرافية والجغرافية... ولا يزالون يواصلون.