الفراشات.. قصة قصيرة مستوحاة من صورة بنات بأجنحة يحلقن بسماء غزة

ذات مصر

كتب: هشام النجار

 


قالت فاطمة: عندما نكون سوياً لا أشعر بتعب ولا حزن ولا
خوف..
ابتسمت خديجة وقالت واثقة:
-عندما نكون سويًا لا أسمع صوت الدبابات وهى فى الخارج
تحاصرنا .. ولا أسمع صوت الطائرات وهى فوق رؤوسنا .
التقطت أسماء خيط التضامن ولضمته في شجاعتها النابتة
ولخصتْ القضية بكلمات رمزية:
-عندما نكون سويًا أشعر بالدفء ولا يوجد غطاء.. وبالشبع ولا
يوجد غذاء .
لكن مريم كان لها رأى ورؤية ربما أكثر عمقًا وواقعية فقالت
متقمصة شخصية المعلمة:
-ولماذا لا نخاف ونحن وحدنا؟.. لماذا لا نخاف ونحن فى هذه
الحالة.. فنحن بنات صغار يحاصر الصهاينة حينا من كل اتجاه
ويبدو أنهم قتلوا كل من فيه وهدموا كل ما فيه ولم يتبق سوانا؟
الخوف حالة إنسانية، طبيعي جدًا أن نخاف، فغيرنا يخاف من
أشياء أخف هولًا مما نلاقيه هنا؛ هناك من يخاف من ذئب، هناك
من يخاف من كلب، بل هناك من البشر من يخاف من خياله.. هذا
يا أخواتي فعل إنساني، الخوف طبيعي فى البشر .
والآن ما الذي يجعلنا لا نخاف، استشهد أبونا واستشهدت أمنا

وعائلتنا كلها، ونحن فى هذا البيت الصغير وحدنا، ليس معنا أحد
والجنود الصهاينة في الخارج .
طبيعي جدًا يا أخواتي أن نخاف، ولكن غير الطبيعي وغير العادى
أن نتغلب على هذا الخوف فى قلوبنا.. البطولة حقًا أن نهزم هذا
الشعور فى نفوسنا ونتحلى بالشجاعة .

قالت أسماء:
-أنا حقا خائفة يا مريم، ولكنى لا أنسى أبدًا وصية أمنا رحمها الله
.

وافقتها فاطمة:
-وأنا أيضاً أوصتني أمنا رحمها الله بشئ أفعله إذا خفت .

خديجة :
-وأنا أيضًا .

مريم:
-أعلم الشئ الذى أوصتكن به أمنا الحبيبة رحمها الله، وهو نفس
الشئ الذى أوصتني به.. إنه الحقل
ألم تقل لكل واحدة منكن: إذا خفتِ من شئ إذا أصابني ووالدك
مكروه، فاذهبي إلى الحقل ؟

أسماء:
-نعم قالت لي أمي بأن أخرج إلى الحقل .

فاطمة:
-وهو ذاته ما قالته لي .

خديجة:
-وأنا كذلك قالت لي نفس الكلام .
ولكن لماذا الحقل بالذات يا مريم ؟

مريم:
-بماذا كانت تسمينا أمنا يرحمها الله؟

هتفن فى صوت واحد:
-الفراشات .

مريم:
-وهذا الحقل الذى ينتشر فيه جنود اسرائيل بدباباتهم الآن ماذا
يمثل لنا؟

خديجة:
-إنه ملكنا .

فاطمة:
-أنه ملعبنا .

أسماء:
-إنه حياتنا، كنا نقضى به أكثر مما نقضيه بالبيت .

فاطمة:
-ولكن كيف سنخرج للأعداء بأرجلنا؟

أسماء:
-الجنود متربصون فى الحقل ونحن هنا فى مأمن منهم وإذا
خرجنا إليهم قتلونا ..
فاطمة:
-هذا انتحار .
خديجة:
-أمنا رحمها الله لم تكن تعلم الغيب، عندما قالت لكل واحدة منا
هذا الكلام.. وان كانت تعلم أن هذا الموقف سيواجهنا ما أمرتنا
بالخروج .
خديجة:
-أمنا كانت تحبنا وأبونا أيضًا، كنا أغلى شئ عندهما.. أغلى من
حياتهما، وأغلى من عيونهما، كانا لا يطيقان فراقنا لحظة
واحدة..
ابتسمت مريم وقالت:
-ولهذه الأسباب التى ذكرتيها يا خديجة نصحت أمنا كل واحدة منا
على حدة تلك النصيحة ..

أسماء:
-نصحتنا بماذا يا مريم؟
فاطمة:
-بأن نذهب إلى الموت بأرجلنا ؟
خديجة:
-بأن نخرج لأعدائنا ونقول لهم : نحن هنا أقتلونا ؟
مريم:
-لا يا أخواتي الحبيبات، أمرتنا أمنا بهذا الأمر لنتغلب على خوفنا
الذى نشعر به الآن، ولنتحلى بالشجاعة.. لقد علمت أمنا بما
سيحدث لنا، فأرادت خروج الفراشات إلى حقلها .
أمنا لا تطيق فراقنا ولا أبونا يطيق فراقنا لحظة، فأرادت أمنا
للفراشات بأن تطير وتحلق فى السماء لتلحق بها وبوالدنا.
نهضت مريم واثقة مبتسمة ولحقتها أخواتها الثلاث بدون تردد .
نظر الضابط الإسرائيلي المدجج بالسلاح بدهشة إلى الفتيات
الأربع وقد خرجن من المنزل ..
أشار بيده إلى جنوده ليصوبوا نيرانهم على رؤوسهن.. نظرَ إلى
جنوده ضاحكًا وقال:
-هذا صيد ثمين لم نتعب فى البحث عنه وجاءنا بنفسه.
أمر جنوده بإطلاق النار، وصوب هو نظره إلى الفتيات ليستمتع
بمنظر رؤوسهن وهى تتكسر وتتطاير ومنظر دمائهن وهى تنفجر
وتسيل .
نظر الضابط فلم يجد الفتيات أمامه .
أدارَ بصره فى أرجاء الحقل فلم يجد أحدًا، أمرَ جنوده بتفتيش
المنزل ومحيطه .

عادَ الجنود خائبين وأخبروا قائدهم بأنهم لم يجدوا شيئًا، ولم
يعثروا للفتيات على أثر ولا على جثثهن إن كن قُتلن .
سألهم:
- ألم تشاهدوهن معي بأعينكم أم أنني كنت أحلم ؟
ألم تروا هؤلاء الفتيات بيض الوجوه والثياب يخرجن من
منزلهن متجهات إلى الحقل الذى نتحصن فيه؟
قال الجنود :
- بلى رأيناهن.. كن مبتسمات، ينظرن إلينا باستخفاف وثقة .
قال أحد الجنود:
-انتظر أيها القائد، لقد تذكرت شيئًا عجيبًا.. فبعد أن صوبنا عليهن
بنادقنا لنقتلهن، رأيتهن ينظرن فجأة إلى السماء وبعدها مباشرة
اختفين من أمامي .
قال الضابط متعجبًا:
-السماء ؟!

نظر الضابط الإسرائيلي وجنوده إلى السماء فإذا بفراشات أربع
تحلقن فوق رؤوسهم متجهة إلى فوق. .