حمدي عبدالعزيز يكتب: المجزرة الجغرافية الجديدة

ذات مصر

بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في سنة 1916 قام الدبلوماسي البريطاني السير مايكل سايكس برسم خريطة المنطقة بقلمه الخاص، فقسمها إلى دول باللونين الأحمر (حصة بريطانيا) والأزرق (حصة فرنسا).

وعندما أنشأ المشروع الإمبريالي الغربي دولة الاحتلال (إسرائيل)، لم يحدد لها حدوداً وتبنت بدورها نظرية الموزاييك، أو الفسيفساء، التي تنطلق من أن هذه المنطقة عبارة عن أقليات دينية وعرقية ولغوية ولا يجمعها رابط العروبة أو الإسلام وينبغي تغيير خرائطها، بما يعني إضعاف الدول القائمة وتجزئتها، وتوسيع الحدود والنفوذ الصهيونيين في المنطقة، والسيطرة على النظام الإقليمي والموارد العربية (يمكن وضع خطاب نتياهو في الأمم المتحدة ورفعه صورة للمر الاقتصادي وتلوينه بقلمه في هذا الإطار).

وفي سنة 2006م، نشر الكولونيل الأمريكي المتقاعد رالف بيترز، الذي كان نائباً لرئيس الأركان لشؤون الاستخبارات في البنتاغون، كتابه "لا تتوقفوا أبداً عن القتال" وشمل خريطة لـ "الشرق الأوسط الجديد" لونها كما فعل سايكس!

ورافقت الكتاب ضجة إعلامية كما قام الببنتاجون بعرضها على اجتماع رفيع لحلف الأطلسي في بروكسل!!

وقال بيتر إن حدود الدول الراهنة في الشرق الأوسط هي الأكثر تعسفاً وظلماً، جنباً إلى جنب مع حدود الدول الأفريقية، وأن الحدود (الجديدة) ستحقق العدل للسكان الذين كانوا الأكثر عرضة للخديعة، وهم الأكراد، والبلوش، ثم المسيحيين والإسماعيليين، وغيرهم من الأقليات.

وقام بيتر بإعادة رسم الحدود بتقسيم وإعادة تركيب كل دول (الشرق الأوسط) تقريباً من الدول العربية إلى باكستان، ومن تركيا إلى إيران، فقام بتقسيم إيران إلى أربع دول، والسعودية إلى أربع دول!.

وأعطى حصة كبيرة لإسرائيل! على إعتبار أن الشرق الأوسط الجديد ليس بريطانياً فرنسياً بل أميركياً صهيونياً.

وفي سنة 2013م نشرت نيويورك تايمز خريطة لأحد المحللين تقسم خمسة دول عربية إلى 14 دولة ومنها السعودية التي ستنقسم إلى 5 دول، أحدها (وهابستان) في الوسط (يقترح الكاتب تغيير اسمها إلى ترفيه ستان)!!

وتم تبرير التقسيم الجديد بالحاجة إلى إعادة تشكيل التحالفات والتحديات الأمنية في المنطقة وتدفق التجارة والطاقة لجزء كبير من العالم!.

والآن..

وبعد طوفان الأقصى، تدخل الأمريكيون لتصفية قضية فلسطين وتعزيز مكانة العدو كقوة أولى في الإقليم، بدأ الحديث عن تغيير الخرائط بمقترح أميركي صهيوني لتهجير سكان غزة إلى سيناء وإقامة وطن بديل لهم، وهو مقترح ما زال قابلاً للتنفيذ بفعل الحصار وحرب الإبادة والتهجير الصهيوني المدعوم بغطاء أمريكي دعائي وسياسي وعسكري واسع!.

كما يجري الحديث أن الحرب الجديدة تم إطلاقها أو توظيفها أمريكياً من أجل ارتكاب مجزرة أمريكية جديدة في المنطقة من أجل استعادة التفوق الصهيوني بالكامل في المنطقة، وطرد روسيا والصين منها!

بالطبع يتحدث الأميركيون عن المساعدات والهدنة الإنسانية ويتنصلون ل من مجازر فلسطين أو المجزرة الجغرافية القادمة، لكن دعمهم لإسرائيل وتدخلهم المباشر لصالح العدو الآن أو تقسيم السودان والعراق وليبيا من قبل، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنهم يمهدون لتلك المجزرة خصوصاً وأنها الراعي الأول للحرب المذهبية في المنطقة وللجماعات التي تتبنى شعار الأمة القبطية في مصر!!

ومن المفارقة أن المجازر الجغرافية التي تمت أو التي يجري التخطيط لها، تجري تحت شعارات أخلاقية مثل رفع الظلم والسلام!! تماماً كما تحدث سايكس بلغة ميكيافيللية عن تفتيته لمنطقتنا بالقول إن هدفها:"إدخال هؤلاء الفقراء العرب إلى العالم الحديث".

ومثلما أدت مجزرة سايكس إلى قرن من الحروب وعدم الاستقرار وإهدار الموارد الهائلة، ستؤدي أية مجازر قادمة إلى طريق أطول من آلام العنف وإهدار الموارد والفشل في التنمية والاستقرار.

وربما بدأت المجزرة من فلسطين بمخططات الإبادة والتهجير الصهيونية وطرح خطط أميركية لإدارة قطاع غزة أمنيا وإدارياً لا تحقق سوى أمن العدو بعد كل ما قام ويقوم به من وحشية!!!

لكن كيف ينفذ الأمريكيون مخططاتهم الإستراتيجية في لعبة الشطرنج التي ستقسم حدود دول في منطقة هائلة من العالم تصل إلى تخوم روسيا والصين؟!.

سؤال تصعب الإجابة عليه، لكن هناك مفاتيح لا يجب إغفالها، تتعلق أولاها بدراسات تجعل العدو الأكبر يستشرف الأوضاع بنسبة يقين كبيرة، وبطريقة تدفعه إلى إشعال الأحداث الكبرى أو إدارتها بما يحقق مصالحه وحليفه الصهيوني!

ويرتبط الثاني بتدخله ونفوذه القوى جداً في كل دولة على حدة وفي النظام الإقليمي نفسه، فتحت غطاء محاربة الإرهاب والسلام والرخاء، رضخت السعودية لتغييرات مجتمعية واقتصادية واسعة، وسارعت نحو التطبيع مع العدو، ورضخت مصر لشروط صندوق النقد الدولي، حتى يسهل السطيرة على قرارها!.

أما الثالث والأهم فيتعلق بالتعامل مع القيادات الفردية في المنطقة وتطويعها بشعارات مثل (محمد بن سلمان ملك العرب الجديد) على غرار تجربة الشريف حسين!!، والسيسي هو القائد الأهم لمكافحة الإرهاب في المنطقة.. إلخ.

(من المفارقة التي لا يجب إغفالها أيضا هنا وتحتاج لتحليل مترو وليس قولبة وشيطنة أن الاسلاميين لم يسلموا من التلاعب الأمريكي منذ سنة 2001م حيث تم استكشاف وضعهم كبديل للأنظمة القائمة وفق شروط المشروع الإمبريالي (لعل هذا ما يفسر جزئياً كراهية أحد القادة العرب لهم ووضع موارد دولته بالكامل لملاحقتهم في الإقليم وانخراطه في صفقة أبراهام.. والان قد يكونون كمخلب قط أمريكي دون أن يدروا في مصر!)..

هذه المفاتيح الثلاثة قد تسهم في مجرزة جغرافية تشبه الدومينو وتتوسع في أفريقيا وآسيا، لكن ما يكبحها حتى الآن صمود المقاومة، وممانعة إيران، وطموح مصر وتركيا نحو تقوية دولتهما ربما.

لكننا ما زلنا بحاجة إلى أدوار إيرانية وسعودية ومصرية وتركية أقوى، حتى لا يندم الجميع يوم لا ينفع الندم!