علي الصاوي يكتب: وقفة مع صديقي المُتشكّك

ذات مصر

بين وقت وآخر أجالس صديقي المُتشكك في كل ما يدور حوله من حركة الحياة، فيشوب حديثنا معارك جدلية وطرح نظريات فكرية، في الغالب لا تُفضي بنا إلى حلول توافقية حول ما يطرحه من قضايا وجودية، وقد التقينا في المكان الذي نجتمع فيه دوما وفي جعبته مجموعة من الذخيرة الفكرية لبدء ملحمة جدلية ساخنة، فقال: بالأمس جلست أفكر في ماهية ما نعيش فيه، فأخذني شيطاني بعيدا وألقى بي في هاوية التطرف الفكري، وجالت في رأسي أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات شافية وقاطعة، تُشبع فضولي وتُسّكت مارد التساؤل بداخلي، الذي لا يكف عن التحريض وتجاوز الخطوط الحمراء لذلك أسألك: أين الله من كل هذا الشر الذي يملأ العالم؟

نظرت إليه بوجوم وعجب! فقال: “أعلم أن السؤال غريب ومثير للجدل، لكنني تعودت أن تناقشني في أي شيء مهما كان غريبا وغير مألوف، فقد يقفُ الكثيرون أمام هذا السؤال مُبدين الدهشة والاستغراب على اعتبار أن ذلك تجاوزا، لكن هل هذا يعنى أن يُسلّم المرء نفسه للجمود الفكري والمسلمات ويكفّ عن التساؤل والبحث عن الحقيقة والإيمان بها ببالغ الرضا واليقين؟”, فقلت: “بالطبع لا، التفكير وطرح الأسئلة هما أدوات كل إنسان ودليله، والمنطق قانون العقل للوصول الى الحقيقة”، فقال: “وهذا ما أرمي إليه”.

ثم بدأ حديثه، قائلا، إن الحياة كما تراها مليئة بالأحداث التي تحتاج إلى تفسيرات سببيّة، والإيمان المطلق بها ليس كافياً كي نقبلها ونسلّم بها دون دليل عقليّ أو رؤية نقدية، فهل الله له دورٌ في كل ما يحدث حولنا من دمار وقتل شرّد الأمم وقضى على كل مظاهر الجمال والازدهار في هذا العالم؟

ها هي غزة ليست منا ببعيد تُباد عن آخرها والعالم صامت والدماء تسيل والأطفال تموت بدم بارد، ذلك العالم الذي تحوّل إلى غابة من الوحوش تأكل بعضها بعضا، والضعفاء هم القرابين التي تُذبح كل يوم على مائدة الكبار ممن يتحكمون في أراوح الناس بكلمة أو قرار، فإذا كانت هذه الحروب من نِتاج سلوك الإنسان وواقع تفكيره، فأين كلمة الله في هذا الصدد؟ مَن للضعفاء والفقراء الذين نالت منهم الحروب وكانوا ضحايا الصراع العالمي القائم على البطش الذى زاد عن حده وجاوز المدى.

أولئك الذين سخّروا العِلم والقوة لإفناء غيرهم ممن لهم الحق في الحياة بشكل عادل، فنصّبوا أنفسهم آلهة في الأرض ولم يبق غير أن يتخذوا من الناس عبيدا لهم، من ينتقم لهؤلاء الضعفاء ويقتص من الجبارين والطغاة العابثين، ويُخلص العالم من فسادهم؟.

فمن عجائب الأقدار أن لها معجزات تزيد الناس إيماناً وثقة أن هناك قوة وراء هذا العالم تحكم، وتزيدهم يقيناً أن العبث والعشوائية ليس لهما مكانا في هذا الكون، فإذا كان الحق قوّياً فالشرعية في يد الظالم تجعل الباطل أقوي منه، حينئذٍ لا يكون هناك مجال لتضميد الجراح بكلمات جوفاء يقولها القائل من مكان بعيد، ظنا أنها ستبرّد قلوب المساكين بسوريا وفلسطين وغيرهما من مناطق الصراع، فبعد أن فقدوا الحياة الكريمة ورضوا بما هم فيه مضطرين، الآن يستكثرون عليهم حق الحياة، تلاحقهم آلة الموت أينما كانوا، فأين العدل إذًن؟
لم أرَ إلا حفنة من الجماهير التائهة تهيم على وجهها سقطت في وحل الإلحاد والكفر، أولئك الذين طوّق اليأس حياتهم من كلّ جانب وأحيط بهم، فقد أثبتت دراسة إحصائية أن نسبة الإلحاد زادت في الوطن العربي جراء ما يعيش فيه الشباب من أحداث جِسام، تحتاج إلى تساؤل وتفسيرات، ولم يجدوا من يساعدهم للخروج من تلك المعضلة بالغة الحساسية، فليس بالضرورة أن يكون سبب الإلحاد عند كثير من الناس هو الإنكار، بل إن بعضهم غاضب من السماء احتجاجا على غيابها، فما يحدث هو إهانة بحق السماء قبل أن يكون امتهانا لكرامة البشر.

كيف ترد؟

فقلت: من الواضح يا صديقي أن المعركة اليوم ستكون حامية الوطيس فموضوع بهذه الحساسية يحتاج إلى طرح موضوعي بعقل وحكمة، عسي أن أجد لطرحك جوابا قاطعا ومقنعا.

في ساعة الزلزلة تصبح قضية الإيمان ووجود الله محل تساؤل إذ يضعف يقين كثير من النفوس، ويقولون: أين الله من كل هذا الظلم الذي يتسع يوما بعد يوم؟ لماذا لا ينصر الله أصحاب الحق على البغاة العابثين، ولماذا لا يستجيب لعباده الذين يتضرعون إليه؟ وهنا يصوّر القرآن هذه اللحظات العصيبة في سورة الأحزاب فيقول: إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا.

ففي ظل اشتداد المحن والأزمات سأل رجل أحد الحكماء: لماذا كل هذا الظلم الذي نعيش فيه، ولماذا لا يتدخل الله لنصرة المظلومين؟ فرد الحكيم قائلا: أنا لا أعلم كثيرا عن سر الإله، لكنني أعلم الكثير عن بؤس وشقاء الإنسان.

فالله حاضر بيننا ومعنا في كل مكان، وليس بغافل عما يعمل الظالمون، لكنه يعطي البشر فرصتهم الكاملة ليختبرهم، ويرى ماذا سيصنع الإنسان في الأرض باعتباره خليفته، فأعطانا الحرية الكاملة لنفعل ما نشاء وقتما نشاء، لذلك علينا أن نتحمل عواقب أفعالنا فلا معنى للحرية بدون مسؤولية، وما يحدث في الأرض من قتل وسفك دماء هو من صُنع البشر أنفسهم بإرادتهم الحرة، فكان فسادهم شرا عليهم وحربا على غيرهم من باقي المخلوقات: ألم تقرأ قول الله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.

فكما صنعنا هذا الجحيم بأيدينا، فقد مُنحنا القدرة لنصنع جنتنا على الأرض بأيدينا أيضاً، لكن حين نقرر ذلك دون إكراه أو إجبار، فلماذا نلوم الله على أنه لم يتدخل لتغيير مجريات الأحداث بمعجزة خارقة، وقد أعطانا القدرة على تغيير الأحداث بإرادتنا الحرة ووفق سنن كونية لا تتغير ولا تتبدل؟ فالله لا يعجل لعجالة أحد، بل يضع سنناً محكمةً ثم يراقب أفعالنا.

ولكي تصل إلى الحكمة يا رفيق يجب أن تفهم أولا غاية وجودك في الحياة، فالله خلق الأرض وسنّ فيها الابتلاء ليميز الخبيث من الطيب وليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، تلك الغاية العظيمة لا تتحقق إلا بشيء من الخفاء لدور الله الظاهر والباطن، فلو كان دور الله واضحاً ينصر المظلوم فور وقوع الظلم عليه، ويأخذ الظالم دون أن يمهله، لما كان هناك معنىً للابتلاء، ولما تمايزت الصفوف ولآمن الناس إجبارا لا اختياراً، بل قد يفنى الخلق جميعهم وتنتهي الحياة، ألم تقرأ قوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى، هذا التأخير قد يكون فرصة للعودة والإصلاح وإعادة النظر.

فالدنيا ليست سوى لحظة عابرة، لا تساوي شيئاً بمقاييس الحياة الأبدية كما قال تعالى: وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، لم يجعل الله الدنيا داراً للخلود والاستقرار بل هي فترة ابتلاء وتمحيص، فلا عجب من أن يعلو صوت الظالمين وتشتد المحنة بالمستضعفين حيناً من الدهر، فبضع عشرات أو مئات من السنين يعلو فيها الظالمون ليست سوى لحظة خاطفة في عمر الحياة الأبدية كما أثبت القرآن ذلك بقوله: أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون. وقال أيضا: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون.

لم يرض الله جل وعلا أن تكون هذه الحياة الفانية مستقراً لعباده، لذا فإن مراد الله غير مراد البشر، مراد البشر النصر والتمكين بينما مراد الله التمحيص والتطهير، وبذلك يُحررنا النص القرآني من مركزية النصر مع اعترافه بأهميته للبشر: فيقول في سورة الصف: وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، فالأولوية هنا لتزكية الإنسان وتطهيره وتقريبه من الله تعالى، ثم يأتي النصر، وهذه الغاية لا تتحقق إلا بالابتلاء، فقال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب.

إن الخسائر التي تنزل بالمظلومين والمؤمنين خلال جهادهم في معارك الحياة ليست ثمناً مهدراً نتمنى لو لم تقع، بل هي في ذاتها مقصد إلهي يتقدم على مقصد النصر والتمكين، ويجب أن ننظر نظرةً أشمل من النظرة الحياتية الضيقة، التي تجعل من الحياة نهاية الآمال، نظرة تتخذ من تزكية الإنسان هدفاً أساسياً لا من تمتعه بالملذات والترف، فالبشر يميلون إلى الراحة ورغد العيش والقعود، والله يريد أن يُحق الحق ويُبطل الباطل وإن كره الظالمين وتألم المستضعفين، فالقياس الصحيح ليس بميزان الألم والخسارة، بل بفلترة الخبث وفضح النفوس وتنظيف الجروح من الشوائب بهدف فرز الصفوة واصطفاءهم، ثم ينصرهم الله بعد ذلك ولو كانوا قلة.

وختاما أقول: الحديث عن حكمة البلاء يا رفيق لا ينفي حتمية النصر والتمكين لعباد الله من الصالحين والمستضعفين، لكن أهمية هذا الحديث في ظل اشتداد المحنة التي نعيشها الآن هي الإبقاء على نظرة تفاؤلية واثقة بالله في جميع الأحوال، كما أن الحديث عن الحكمة الإلهية ليس بديلاً عن ضرورة المراجعة وإعادة تقييم التجربة البشرية لمعرفة أين أصبنا وأين أخفقنا، واللحظات العصيبة تحتاج إلى جرعات مواساة وضخ الأمل في النفوس، والنظرة الإيمانية لا تتعارض مع الحكمة السياسية لتقليل الخسائر وتحقيق الأهداف، إن هذا التصور العقلاني هو الذي يمنحنا الصبر واليقين ويحول بيننا وبين الوقوع في براثن اليأس والكفر مهما طال الظلم واشتد الظلام، فنحن أولى باللوم ولله در القائل: أنا الملوم فعهد الله أحمله.. وليس يحمله غيري من الأمم.