هشام النجار يكتب: صلاح جاهين (1-2) على اسم مصر

ذات مصر

في 25 ديسمبر 1930 وُلد محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي (المعروف بصلاح جاهين)، لأب قاضٍ وأم مُعلمة استقالت من عملها للتفرغ لتربيته، وما أجمل وما أنبل وما أبدع وأمتع ما ربت!

تمر اليوم الذكرى الـ93 لمولد هذا الفنان المبدع الذي طالما أمتعنا وأشبعنا رؤى وحكايات، وأضحكنا وأبكانا ودفعنا للتعمق والتفلسف والتفكير في أحوالنا ووجودنا ومنشئنا وتصرفاتنا وحضورنا وغيابنا ومشاعرنا ومصيرنا ومصريتنا وعبورنا وعروبتنا وقومنا وقوميتنا.

فوق ذلك وقبله وبعده، عبر صلاح جاهين بشعره وأغانيه عن حب وارتباط المصري ابن البلد بوطنه ببساطة وعمق، وبمهارة فائقة لم يستطع أحد مجاراته أو مسايرته فيها.

كتب صلاح جاهين، من ضمن ما كتب، أجمل ما كتب في الوطنية وحب مصر ووصف محاسنها وجمالها بدقة وبأسلوب يعجز عنه كثير من المبدعين والشعراء؛ وأقصد هنا رائعته (على اسم مصر)، التي كتبها في أعقاب هزيمة يونيو 1967م وأثناء حرب الاستنزاف.

حاول جاهين أن يمسح بـ(على اسم مصر) من الوجود عار واسم وذكرى النكسة والهزيمة وذل الانكسار والمهانة، وأن يكتب بديلًا عن ذلك كله (اسم مصر) العزيز القاهر المنتصر من جديد على صفحات الوجود والتاريخ والأحداث والوجوه والجغرافيا والتضاريس والملامح والوجدان.

الدماء والتضحيات تشطب الخزي الذي لحق بالمصريين، وتستنزف الأحزان، وتضعف حضورها في الصدور الضيقة، وتكنسها من الشوارع والبيوت والميادين والجدران، وتنعش الشعور بالعزة والانتماء وتزيح الغبار عن اسم مصر، فيراه المصري بهيًا براقًا لامعًا كما لم يره من قبل.

كتب جاهين في (اسم مصر) قصيدة لم تكتب من قبل، فكأن حروفها مفصلة على طبائع المصريين وأفراحهم وأحزانهم ولهجتهم وملامحهم.

كأن مسيرتهم وتاريخهم وعراقتهم وحضارتهم ومستقبلهم وحياتهم وموتهم في «ميمها»، وكأن صبرهم وصدقهم وصلاحهم وإبداعهم وتحملهم العنيد وعزمهم الشديد وقوة بأسهم ونَفَسَهم الطويل وعلاقاتهم الممتدة بالمصائب التي تهد الحيل في «صادها»، وكأن في «رائها» راحتهم وطمأنينتهم وخفة دمهم ونكاتهم وتواضعهم وكرمهم وعشرتهم الراقية وطيبة قلوبهم ونقاء سريرتهم ومثابرتهم ورضاهم بالقليل.

(اسم مصر) المغوار، يزيح عنه صلاح جاهين الغبار، مع تصاعد الأحداث وأخبار المعارك، فيظهر المصريون مع كل حرف يلمع بأصالتهم وشهامتهم وجدعنة أولاد البلد، وهكذا يغني المصري الأصيل الجدع: «بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب، وبحبها وهي مرمية جريحة حرب».

هو عشق أولاد البلد المجنون، الذين ربما تنفلت من فم أحدهم شتيمة أو كلمات وعبارات نابية، ويجره الغضب للخصام والهياج والصخب، ولكن سرعان ما يعود بعد دقائق ملبيًا نداء الوطن مهتاجًا بالشوق، ناسيًا ما طرأ معكرًا صفو المودة والحب، وكأن شيئًا لم يكن.

وهكذا يغني المصري الأصيل الجدع وراء جاهين المعجون والمدهون والممسوس بحب البلد (بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء، وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء، وأسيبها وأطفش في درب وتبقى هي في درب، وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب، والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب).

على اسم مصر؛ فليس المصريون هم من يتنكرون ويجحدون الوطن الغالي حال الهزيمة أو الأزمات العنيفة، وليسوا من صنوف الشعوب التي تتلذذ بالاستعباد وترضى بالقهر وتمعن في اليأس وتنسى ذاتها وتاريخها ونضالها ودورها في الوجود ورسالتها في الحياة، «فلا ينكسر المصري حين ينكسر وهو مصري، ولا ينهزم المصري حين ينهزم وهو مصري، ولا يتخاذل المصري حين يتخاذل وهو مصري»، وليس هذا جرحًا أو شرخًا في أصل مصريته أو نقضًا لها، وإنما هو جرح في كمالها ونقص في تمامها؛ فالذين انهزموا هناك وانسحبوا وتخاذلوا ولم يقدروا الأمور قدرها ولم يكونوا على مستوى المسؤولية أواخر الستينات –وعلى منوالهم قس- مصريون وطنيون، لكن في مصريتهم ووطنيتهم نقص ودَخَن، وعليها ران.

في غناء صلاح جاهين يظهر المصري الأصيل كما ظهر بطلًا وهو ينتشل وطنه من ذل النكسة وعار الهزيمة والانكسار، وهو يوقع الخسائر بقوات العدو الصهيوني، وهو يغرق المدمرة إيلات، وينفذ عملية رأس العش، ثم مرحلة الردع ثم الاستنزاف، ثم رد الاعتبار واسترداد الثقة بالنفس وعودة الكرامة للجيش المصري كاملة في ملحمة العبور الخالدة وتحقيق النصر لشعب مصر العظيم عام 1973م، ولذلك استحق المصريون هذا الاسم (اسم مصر) وكانوا جديرين بالانتساب لهذا الوطن الكبير والارتباط به.

فتش المبدع البارع صلاح جاهين في أعماق الشخصية المصرية عن أسرار حبها لوطنها ومقوماته وعوامل ومظاهر تميزه عن حب أي إنسان آخر لوطنه؛ فحب المصري لمصر مختلف وله علامات ومظاهر ودلالات وتعبيرات خاصة، فهو يعبر عن حبه لوطنه بطرق غير مألوفة ومعروفة للعشاق، لا تتكرر كثيرًا، ونادرًا ما تجدها عند شعب من شعوب الأرض؛ فهو يحبها، ولا شيء في حياته أجمل ولا أروع من هذا الحب، ولا يؤثر في هذا الحب ولا يغير فيه إذا كانت مصر منتصرة أو منهزمة، فقيرة أو غنية، تمر بأزمة أو تعيش في رفاهية.

لا يغير من شيء أو يؤثر إذا عانى هو فيها وتصعلك وافتقر وهام على وجهه متألمًا وحيدًا في دروبها، ورغم كل الآلام يغني هكذا: (بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء.. وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء، وأسيبها وأطفش في درب وتبقى هي في درب، وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب، والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب)، وهكذا أيضًا يغني: (بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب.. وبحبها وهي مرمية جريحة حرب).

يحب جاهين البلد بهوس وجنون وبحميمية التفاصيل الصغيرة ومشهد الليل والنيل وأضواء مدنها وصمت ريفها وملامح فلاحيها وفتوة عمالها وصناعها وجنودها وعبقرية مفكريها وأدبائها وعلمائها، وبصور أبطالها العظام وبكبرياء شعبها القديم الذي خلده التاريخ، في قصائد حب وغزل أراد أن يجمع فيها كل محاسن محبوبته ويربط كل شيء فيها وفي تاريخها وفي ناسها باسمها وبحروف هذا الاسم المميز العبقري (مصر).

وكأن أسرار عظمة وخلود مصر مسكونة في هذه الحروف الثلاث المشحونة بضجيج وصخب تفتقر إليه كل حروف الأبجدية؛ فهي (زوم الهوا) و(طقش موج البحر لما يهيج) و(عجيج حوافر خيول بتجر زغروطة) وهي (حزمة نغم صعب داخلة مسامعي مقروطة)، وفوق هذا وذاك، هي مسكونة بأسرار المصريين وأسرار عبقرية الشخصية المصرية الأصيلة.

أحب جاهين مصر بجنون، وتفاعل مع انكساراتها وهزائمها، وحشد المصريين بكلماته وإبداعاته لمساندتها ونصرتها لحظة الانكسار، وجمعهم في صورة واحدة عشية الانتصار، غنى للحب والحرية والإيمان والعدالة والعطاء والتضحية وللزوج والأب والأم والربيع والحياة والبنت والولد، وغنى كلماته المصريون وراء أجمل الأصوات التي أنجبتها البلد، للنهوض والتعمير والتقدم والسعادة والانتصار والخلاص.

وأجمل ما في جاهين حبه للبسطاء وهم غالبية المصريين الذين يعيشون الحب ويقتنصون السعادة بما تيسر لهم من إمكانيات، وبأقل القليل يحضنون راحتهم ويروون سلامهم وأمانهم ويرعون متعهم الصغيرة.

يعلل الشاعر والناقد شعبان يوسف اهتمام جاهين بالمصريين وبالمناضلين من الشعب في المصانع والحقول وميادين العمل، راصدًا حركتهم شارحًا مشاعرهم، لكونه متأثرًا بقضية العدالة الاجتماعية المفعمة بالحب والحرية، (العدالة الاجتماعية في صورها العديدة، وهو الأقدر في التعبير عن ذلك بأقصر العبارات وأحكمها وأجملها).

يقول شعبان يوسف: (أدرك صلاح جاهين سر المصرية الأصيلة، واستطاع أن يصل إلى منابعها العميقة دون أي افتعال، لذلك كانت كل تجلياته تجد الصدى الأعظم عند المصريين بشكل عميق، مثله مثل بيرم التونسي وعبد الله النديم من قبلهما، أعتقد أن هؤلاء الثلاثة وصلوا إلى عمق الروح المصرية دون الكثيرين في تاريخ الشعر عمومًا).

علامات اتضحت بقوة –كما يقول يوسف- في قصيدته (الشاي باللبن)، والتي يقول فيها دون هتاف وصراخ:

أربع إيدين على الفطار

أربع شفايف يشربوا الشاي باللبن

ويبوسو بعض ويحضنوا نور النهار

بين صدرها وصدره وبين البسمتين

ويحضنوا الحب اللي جمعهم سوا

على الفطار

ويحضنوا الشمس اللي بتهز الستار

وتخش من بين الخيوط وبعضها مع الهوا

للأودة ترسم نفسها على أرضها

على البساط اللي اشتروه مع الجهاز

على الغرام اللي اشتروه من غير تمن

وعلى القزاز

ويشربوا الشاي باللبن

في فناجين 

على الفطار أربع إيدين

ودبلتين

بيصحوا قلبي كل ليلة في المنام

ويكتبولي بلون منور فزدقي

على الهوا الأسود وع الجفن اللي نام

كلمة سلام

سلام على روحك الجميلة يا صلاح، سلام كل المحبين للوطن وكل الفدائيين وحاملي السلاح دفاعًا عن الأرض والحدود والعرض، وكل من مع مصر ومن يحبها في كل أحوالها وعلى استعداد أن يلبي نداءها ويضحي بأثمن ما يمتلك، ولو كان لا يملك إلا الحطام ويمشي لا يأبه به أحد وسط الزحام.

سلام البسطاء الذين تتسع منازلهم الصغيرة بالحب والتواضع والرضا والوفاء، سلام من يملكون الدنيا وليس معهم نقود ومن يشيعون البهجة ويزيحون الكآبة ويفرطون في الأمل ويشعلون ثورات التغيير داخل الأنفس الحرة، باتجاه الفهم والوعي والتبصر، سلام من ينطقون ويمشون بالحكمة ويعطون بلا حدود وسط جوقة تحترف الكلام والصراخ والهتاف وتجيد الاختفاء والاختباء إذا جد الجد.