من بينها الجنيه المصري.. عوامل انهيار العملات العربية من القمة إلى القاع

ذات مصر

في ثمانينيات القرن الماضي، كانت العملات العربية، وبالقلب منها عملات الدول غير النفطية، تمثل صورة قوية في سوق الصرف، أمام العملات الأجنبية.

فوفقًا لقاعدة بيانات البنك الدولي، كان سعر الدولار يمثل أقل من جنيه مصري (70 قرشا فقط)، و3.9 ليرات سورية، والجنيه السوداني يعادل 2.6 دولار، والشلن الصومالي يعادل 3.4 دولارات، والدينار العراقي يعادل دولارين، والدولار يعادل 3.4 ليرات لبنانية.

في ذلك العقد، كانت الدول العربية تتبع نظام الاقتصاد الاشتراكي وسيطرة الدولة، وكانت معظم تعاملاتها الخارجية تتم وفق آلية الصفقات المتكافئة، كما كانت التعاملات الخارجية بطبيعتها محدودة، نظرا للعمل وفق سياسة إحلال الصادرات محل الواردات، عبر شركات القطاع العام.

وحينها لم يكن للسفر خارج البلاد والحاجة للعملات الأجنبية، عبء وطلب كبير للنقد الأجنبي، فضلا عن السياسية النقدية التي تعتمد نظام التسعير الإداري للعملة المحلية، وبالتالي كانت أسعار صرف العملات العربية لا تعمل وفق آلية العرض والطلب.

وقبل تحرير سعر الصرف في الدول العربية خلال الثمانينيات، كان الحصول على النقد الأجنبي يتطلب شروطا قد لا تتوفر للبعض، كما أن البنوك لم تكن تلبي احتياجات طالبي النقد الأجنبي، على قلتها، مما أوجد سوقا موازية للنقد الأجنبي، ولكنها لم تكن نشطة، أو مؤثرة بشكل كبير على سعر الصرف.

لكن الوضع يختلف كثيرًا هذه الأيام، حيث أصبحت أسعار الصرف للعملات العربية للدول غير المنتجة للنفط تواجه موجات عاتية من التراجع أمام العملات الأجنبية.

حيث سجلت أسعار الصرف الرسمية للدولار حاليا نحو 30 جنيها مصريا، و546 جنيها سودانيا، ونحو 1450 دينارا عراقيا، و492 ليرة سورية، و571 شلنا صوماليا، و1507 ليرات لبنانية.

عوامل الانهيار

أحد العوامل التي ساهمت في انهيار العملات العربية بشكل كبير، ارتفاع معدلات الفساد، وخاصة في الدول التي تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني.

ففي تقرير الشفافية الدولية لعام 2023، نجد أن كل الدول التي انهارت أو تراجعت عملتها بالمنطقة العربية، ترتفع فيها معدلات الفساد.

فالصومال تحتل ذيل قائمة الدول على مؤشر الشفافية في المرتبة 180، وسوريا في المرتبة 177، واليمن في المرتبة 176، وليبيا في المرتبة 170، والعراق في المرتبة 154، ومصر في المرتبة 108، علما أن المؤشر يضم 180 دولة.

ولا بد هنا، من التفريق بين انهيار عملات بعض الدول وتراجع العملات في البعض الآخر، خاصة خلال العقدين الماضيين؛ فما تم في سوريا ولبنان والسودان واليمن والصومال والعراق، هو انهيار بلا شك.

أما الوضع في مصر وتونس، فلا يزال في إطار التراجع الكبير، ولم يصل بعد إلى الانهيار، لكن لا توجد قواعد إنتاجية قوية في كل من مصر وتونس تساعد على الخروج من تراجع قيمة العملة، بحيث يتم العمل على زيادة الصادرات.

ارتفاع الطلب على النقد الأجنبي

في أواخر القرن الـ 20، شهد العالم انطلاق العولمة الاقتصادية، ولبست الاقتصاديات العربية ثوب اقتصاديات السوق، وعدلت من سياساتها النقدية والمالية والإنتاجية.

وحينها، دخلت غالبية الدول العربية غير النفطية في برامج إصلاح مع صندوق النقد الدولي، ألزمتها بتحرير سعر صرف عملاتها المحلية، مما وضع العملات العربية أمام معادلة جديدة.

وإثر تطور العلاقات الاقتصادية الخارجية انتعشت حركة الواردات السلعية والخدمية، وسُمح بالسفر لكافة الفئات من رجال الأعمال والطلاب والراغبين في السياحة الخارجية، مما ولد طلبا جديدا على النقد الأجنبي لم يكن موجودا من قبل.

والدول العربية التي دخلت في خضم العولمة الاقتصادية، لم تتم فيها عملية إدارة اقتصادية محكمة من قبل حكوماتها، بل تم التعامل مع خروج الدولة من النشاط الاقتصادي، على أنه إخلاء مسؤوليتها عن الأداء الاقتصادي.

لكن هذا التعامل جانب الصواب، فالدولة وإن أسندت الجانب الإنتاجي والخدمي للقطاع الخاص، تظل مسؤولة عن التخطيط الكلي، بحيث تنضبط مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتتوازن التأثيرات المتبادلة، حتى لا يتحمل قطاع أعباء أكثر من القطاع الآخر، أو يؤثر مؤشر ما سلبيا على أداء باقي المؤشرات الأخرى.

الأرقام المتعلقة بالتجارة الخارجية للعالم العربي، زذادت بشكل كبير، ففي عام 1990 بلغت الواردات العربية من السلع والخدمات 175.6 مليار دولار، بينما في عام 2020 بلغت 922.2 مليار دولار، أي أن نسبة الزيادة في هذه الواردات بلغت 426%، وكذلك الحال بالنسبة للصادرات العربية من السلع والخدمات، فقد بلغت عام 2001 نحو 307 مليارات دولار، بينما وصلت إلى 936 مليار دولار عام 2020، أي أن هذه الصادرات زادت بنسبة 204%.

لكن الأرقام، وإن كانت تعبر عن واقع العالم العربي ككل، إلا أن الدول العربية غير النفطية، تعاني كلها من عجز في علاقاتها التجارية الخارجية، مما أثر سلبيا على واقع النقد الأجنبي بها، وزيادة الطلب على الدولار.

ففي مصر مثلاً، كانت الصادرات من السلع والخدمات في عام 1980 نحو 6.6 مليارات دولار، ثم ارتفعت في 2022 إلى 71 مليار دولار، أما الواردات من السلع والخدمات فارتفعت خلال الفترة نفسها من 9 مليارات دولار إلى 104 مليارات دولار، لنجد أن العجز ارتفع من 2.4 مليار دولار إلى 33 مليار دولار خلال هذه الفترة، وهو ما يمثل صورة حية على زيادة الطلب على النقد الأجنبي.

غياب الاستقرار السياسي

وإلى جانب ذلك، شهدت بعض البلدان العربية أحداثا سياسية وأمنية، أضرت بوضعها الاقتصادي بشكل كبير، مثل الصومال، حيث انهارت مؤسسات الدولة في مطلع الثمانينيات، كما تعرضت السودان لأحداث سياسية متتابعة، كان أكثرها ضررا على الواقع الاقتصادي انفصال جنوب السودان في عام 2011، ثم أحداث أبريل 2019 التي أطاحت بنظام البشير.

والحال نفسه في العراق الذي تعرض للاحتلال الأمريكي عام 2003، فيما تعرضت عدة دول عربية بعد الربيع العربي لنزاعات مسلحة في كل من ليبيا وسوريا واليمن، كما تعرض لبنان لأزمة اقتصادية في نهاية 2019، وتعمقت في عام 2020 وما بعدها.

كما عاشت مصر وتونس أحداثا اقتصادية سلبية أيضا بعد نهاية حقبة الربيع العربي.

تراجع الاحتياطات الأجنبية

ونتيجة التقلبات السابقة التي مرت بالدول العربية، التي تراجعت قيمة عملاتها أو انهارت، تأثرت مؤشراتها الاقتصادية الأخرى مثل احتياطي النقد الأجنبي.

وترصد أرقام البنك الدولي في اليمن تراجع احتياطي النقد الأجنبي من 8.1 مليارات دولار في 2008 إلى 1.2 مليار دولار في 2022.

وفي تونس تراجع الاحتياطي من 11.2 مليار دولار في 2009 إلى 8 مليارات دولار في 2022.

أما في ليبيا تراجع الاحتياطي من 124 مليار دولار في 2012 إلى 86 مليار دولار في 2022.

وفي لبنان تراجع الاحتياطي من 55.4 مليار دولار في 2017 إلى 32.5 مليار دولار حاليا.

وبشأن احتياطيات النقد الأجنبي في بعض الدول العربية، نجد أنها عانت من انهيار حقيقي، لكن ما ساعد على احتفاظها ببعض الأرصدة التي يمكن اعتبارها مقبولة، قيام الدول النفطية العربية بإيداع مبالغ في البنوك المركزية لهذه الدول، لمساندة احتياطياتها، وتعد مصر وتونس مثالا واضحا لهذا الأمر.

تأثر المواطن بانهيار العملة

ويتحمّل المواطن أعباء عدة، نتيجة انهيار العملات العربية في الدول غير النفطية، من أبرزها انهيار قيمة المدخرات لمن يحتفظون بمدخراتهم بالعملات المحلية، فلك أن تتخيل الوضع في السودان بعد أن كان الدولار يعادل ما بين 40 و50 جنيها، قفز إلى ما يزيد على 500 جنيه.

وفي مصر، كان الدولار مطلع الألفية الثالثة بحدود 3.30 جنيهات، فأصبح في 2024 عند 30 جنيها للسعر الرسمي، وكذلك تكرر الوضع في باقي الدول التي شهدت تراجعا أو انهيار عملاتها المحلية.

وكان التضخم نتيجة حتمية لتراجع وانهيار العملات العربية، فحسب أرقام النشرة الفصلية للربع الرابع من عام 2023، والتي تصدرها المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، بلغ التضخم في السودان عام 2023 نحو 256%، وفي لبنان 238%، وفي سوريا 135%، وفي مصر 23%، وفي اليمن 14.9%، مع الأخذ في الاعتبار أن معدلات التضخم في تلك الدول شهدت قفزات أعلى مما هو مدون بخصوص عام 2023، ولكن التراجع في أرقام 2023 يُعزى إلى طبيعة المؤشر التي تقارن بالعام الماضي.

ولارتفاع معدلات التضخم لسنوات متتالية، وعدم وجود تحسن في الأداء الإنتاجي والاقتصادي بشكل عام ارتفعت معدلات الفقر، إذ تبيَن منظمة الإسكوا في مسحها للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لعام 2021-2022، أن نسبة 35.3% من إجمالي سكان المنطقة العربية (باستثناء دول الخليج وليبيا) يعيشون تحت خط الفقر، وبما يصل إلى 130 مليون شخص.

وفي بعض التحديثات سواء من قبل بيانات قُطرية أو أممية، هناك نسب أخرى للفقر. ففي مصر كان آخر بيان عن مستويات الفقر بحدود 29.7%، وفي سوريا ذكر المرصد الأورومتوسطي أن نسبة الفقر هناك شملت 90% من الشعب.