هشام الحمامي يكتب: «حماس» تقول: مفاتيح غزة مُعلَّقة في أعناقنا

ذات مصر

بحسبة عقلية بسيطة سيتأكد لنا أن (طوفان الأقصى) بكل ما احتوته من أحداث وأشخاص، لابد من أن يكون بها جزء كبير ومهم، يتجاوز قدرات البشر العاديين في التدبير والتنفيذ، من اليوم الأول للإفراج عن سجين فلسطيني في سجون إسرائيل اسمه (يحيى إبراهيم حسن السنوار) عام 2011م، وانتهاء بمشهد أمس من ذهاب رئيس المخابرات الأمريكية ويليام بيرينز -وما أدراك ما بيرينز- وراء وفد تفاوض «حماس» أينما ذهب. إلى القاهرة ذهبوا فذهب، إلى الدوحة غادروا فغادر، وربما لو قرروا أن يعملوا (عُمرة) سيذهب وراءهم.

ومرورا طبعا بتصريح مايكل براون، ابن المارينز الأمريكي العريق، عن أن إسرائيل أسقطت نصف طائراتها المسيرة بنفسها! وناهيك بكل طبعا وطبعا، عن ضربة (كرم أبو سالم) ظهر أمس الأحد، بصواريخ (رجوم)، أكرر: معبر أبو سالم الذي تتجهز فيها القوات الإسرائيلية استعدادا لدخول رفح. 

وأكرر: أمس، بعد مرور 212 يوما على (نزهة إلى الجحيم) التي يشهدها الجيش الذي لا يقهر في غزة (دائرة النور) التي تدور مع كوكب الأرض في ملكوت الملك الخلاق العليم.

***

أي ضابط مخابرات متوسط الذكاء كان سيتأكد له أن هذا (السجين) ليس رجلا عاديا، هكذا كانت سيرته التي تابعوها داخل السجن طوال 23 عاما، سجين كان يكتب ويقرأ ويتعلم ودائم الترديد للآية الكريمة: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) كما يحكي عنه أحد زملائه اليساريين أثناء وجوده معه في السجن.

مايكل ميليشتاين ضابط المخابرات الإسرائيلي قال للفايننشيال تايمز، في نوفمبر 2023م، إن التقدير الخاطئ لشخصية السنوار كان مقدمة لأكبر فشل استخباراتي في إسرائيل.

وهذا الكلام جزء منه فقط صحيح، والجزء الآخر غير صحيح؛ لأن الصحيفة نفسها نقلت عن ضابط آخر أن تقاريره أثناء السجن تقول: موثوق ومؤثر ومقبول من قبل أصدقائه، ويتمتع بقدرات غير عادية على التحمل والدهاء، ويكتفي بالقليل، ويحتفظ بالأسرار حتى داخل السجن بين السجناء الآخرين، ولديه القدرة على الإقناع والحشد.

***

ليس هذا فقط؛ بل وستجري معه القناة الثانية الإسرائيلية حوارا في 2006م! وسيقدمه الصحفي الإسرائيلي قائلا: جئنا إلى هنا، لمقابلة شخص واحد هو (الأكثر أهمية) بين السجناء، كبير أسرى حركة «حماس»، وسيوجه الصحفي للسنوار سؤالا حول هدنة طويلة مع إسرائيل، فيجيبه بالعبرية الجيدة: نعلم أن تل أبيب لديها 200 رأس نووي، ومتفوقة في السلاح الجوي، إننا لا نستطيع تدميرها، لذلك نحن نؤيد هدنة طويلة أو قصيرة، وسنثبت للعالم أننا نحترمها (الهدنة)، وأكد أنه لن يعترف بدولة إسرائيل رغم أنه يدعم خيار (الهدنة)، كما دعا الإسرائيليين إلى تأييدها.

***

إسرائيل أفرجت عن الحاج يحيى وهي تعلم عنه كل ما سبق، من سيكتفى بالقول إنه مجرد فشل استخباراتي لن يساويه في الخيبة المخيوبة إلا من قال ذات يوم عن 5 يونيو 1967م: لقد فاجؤونا!

كنا ننتظرهم من الشرق فجاؤونا من الغرب، من احترقوا بحميم 5 يونيو، هم أسعد الناس الآن، خاصة في مجال السرد والرد الكلمنجي. وجملة (النصر المطلق) الذي يتحدث عنه نتنياهو الآن 3 مرات في اليوم، قبل الأكل وبعد الأكل، هي بالضبط المعادل الموضوعي لجملة (خسرنا حربا ولم نخسر المعركة)، أروع كلام هو ذاك الذي تتكرس فيه البداهات والبلاهات والبلاعات!

على فكرة، وتتمة لحديث الحاج يحيى وهو في السجن عن (الهدنة الطويلة)، أرجح بقوة أن الحرب الحالية ستنتهي إلى هذا الوضع، (هدنة طويلة) ورفع الحصار. 

***

إذا كان هذا (الرجل) المحكوم عليه بـ 430 سنة سجنا، وقالت عنه التقارير ما قالت، وأرادت له (الصدفة الذكية) مع الاعتذار للسادة الملحدين! أن يمكث في سجون إسرائيل 23 سنة يرى ويسمع عن كثب وقرب، ويقرأ السير الذاتية لقادة (الحركة الصهيونية) هرتزل وجابوتنسكى وبن جوريون، ويعرف ويفهم أنهم خليط من (الحقارة والتفاهة والدناءة) ولا علاقة لهم لا بيهود العالم ولا باليهودية (دون أن يقرأ لعبد الوهاب المسيري رحمه الله! ودون أن يدخل المسيري سجون إسرائيل!).

ليس هذا فقط، بل ومجرد نصابين ملحدين موظفين عند الغرب الاستعماري، وقوتهم كلها من ضعف من حولهم، وبدرجة أكثر كثيرا من دعم الغرب لهم (كل هذا فعلا رأيناه صوتا وصورة). 

ليس هذا فقط؛ بل وسترتب الصدفة الذكية دخول الشيخ المؤسس أحمد ياسين السجن في (مايو 1989م) ليكون أقرب إنسان منه وله، ويخرج الشيخ قبله بـ(7 سنين) ليستشهد في 2004م، ولا يعلم ما كان بينهما إلا الملك الخلاق العليم الذي بيده ملكوت كل شيء، (دعكم بقى من عته الصدفة الذكية، ولنتحدث بجد)، ثم يخرج عام 2011م لينتخب في 2012م عضوا بالمكتب السياسي للمقاومة الإسلامية (حماس) ليتسلم مهمة الإشراف على (كتائب القسام) من داخل المكتب.

***

ستمر خمس سنوات ولن يكون إلا ما كان يجب أن يكون، فكان، إذ سيفوز في انتخابات رئاسة الحركة كلها في القطاع (2017م) وستمر 7 سنوات (يوسفية)! هل نقول ذلك؟! ممكن، وممكن أيضا تكون قصيدة شاعر الشعراء/ محمود درويش رحمه الله (أنا يوسف يا أبي) ما كانت إلا سحابة تجري في سماء الشعر (الدرويشي) تبحث عمن يستحق ماءها ومزنها، ووجدته فأصابه غيثها.

الحاصل أن (السبع اليوسفية) مرت لنرى ويليام جوزيف بيرينز (68 سنة) رئيس الـمخابرات الأمريكية يجري خلف وفد تفاوض «حماس» من القاهرة للدوحة رايح جاي، ولنرى أيضا ذا الوجه الكئيب (نتنياهو) الأحد الماضي يوجه خطابا ملحميا في ذكرى (المحرقة) قال عنه مراسل جريدة يديعوت أحرونوت: الخطاب الأكثر كآبة على الإطلاق، الكثير من الوحدة والكآبة، وبدون أي أمل أو تفاؤل أو رؤية.

ماذا قال نتنياهو في خطابه الأكثر كآبة على الإطلاق؟

قال: إذا اضطرت إسرائيل إلى الوقوف بمفردها، فسوف تقف وحدها!

***

لنشاهد معا كيف يتمكن الوهم من صاحبه حتى ينقلب عليه! أين تعيش يا رجل؟ ألا ترى وتسمع العالم كله ماذا يقول عن (المحرقة) الدنيئة في غزة؟ أو بعد حضور حاملات الطائرات الأمريكية التي جاءت من 8 أكتوبر؟ وبعد كل هذه المليارات مالا وسلاحا من أوروبا؟ تتبجح وتقول: إذا اضطرت إسرائيل إلى الوقوف بمفردها فسوف تقف وحدها! وحدها؟ ماذا إذن عن غزة؟ وهي وسط أهلها، بل وفي القلب من قلب أهلها، وهي تقف وحدها؟

***

في أعقاب معركة (سيف القدس) مايو 2021م، هدد وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها جانتس باغتيال (الحاج يحيى) فخرج له صاحب (قلب الولي/ عقل الداهية) متحديا، بالذهاب إلى بيته مشيا على الأقدام، قائلا: (أنا جاهز، ولن يرمش لي جفن)، وفعلا ذهب إلى بيته مشيا على الأقدام والكاميرات تصوره، ألم أقل لكم أولا أن الموضوع كله، به ما (يتجاوز قدرات البشر العاديين تدبيرا وتنفيذا).

يكتب لنا المفكر الكبير خالد محمد خالد، رحمه الله، في كتابه الرائع عن (أهل الطريق إلى الله) أن أحد الصالحين كان دائما ما يقول لأصحابه: أتظنون أنى أموت هكذا؟ لا، إنما سأُدعى فألبي.

ويشاء الملك الخلاق العليم أن يكون ما قال، وأثناء سيره مع أصحابه ذات يوم إذا به فجأة يصيح: (لبيك)، ويحتضنونه بين أيديهم بعد أن لبى نداء ربه.

لنطمئن إذن، فمفاتيح غزة مُعلَّقة في أعناق مثل هذا الرجل الصالح.