دكتور إبراهيم عرفات يكتب: الاستعمار الأكاديمي والخراب التعليمي

ذات مصر

"شوفته بعيني ما حدش قال لي": الاستعمار الأكاديمي. أحط وأبغض أنواع الاستعمار. يدس السم في العسل، ويقلب الرسالة الجامعية من نبل الدفاع عن الذات إلى خسة خدمة التبعية. هو أخطر أنواع الاستعمار قياساً بأشكال أخرى.

 لقد سمعت وأنا صغير من الجدود والآباء قصصاً مرعبة عن الاحتلال العسكري وتاريخه الدموي. ثم عرفت لما تقدمت خطوة أبعد في التعليم عن الاستعمار الاقتصادي الذي يواصل استنزاف الثروات ونزح الخيرات بطرق جديدة ولئيمة. 
   لكن هذا كوم وما تعيشه بنفسك كوم آخر.

وقد عشت ليس فقط لأقرأ وإنما لأرى ألواناً بغيضة من الاستعمار الأكاديمي. هو ليس احتلال ينفذه عساكر يحملون بنادق. وليس سرقة للموارد تنزحها الرأسمالية الدولية الجشعة، وإنما هو احتلال للعقول، وليست أي عقول.

 إنه استعمار يتخير أفضل العقول ليفسدها باستعباد النخب الجامعية العربية لتكون شريكة له بالترغيب أو مضطرة لمسايرته بالترهيب. يحولها إلى الترويج لقيم ونظريات ومناهج ومصطلحات وأفكار معادية للجذور الحضارية والقيم الوطنية ناسفاً بذلك دور النخب العربية المشتغلة بالعلوم الاجتماعية في أن تنتج معرفة تشبه مجتمعها وتفهم مجتمعها وتخدم مجتمعها.

يقضي تماماً على تلك النخبة ويحرمها من حقها في أن تكون مستقلة أو ممثلة في العملية التعليمية، وإن حاولت الجأر بصوتها يهمشها ويتبلى عليها ويسخر من دفاعها عن ذاتها ومسؤوليتها في أن تطور علوم اجتماعية تعترف بالقيم الإنسانية وتحترم في الوقت نفسه السياق المجتمعي الذي تعيش فيه. 

ومثلما يلوث الاستعمار الثقافي عقول العامة بالإعلانات وفي المولات، يلوث الاستعمار الأكاديمي عقول الخاصة في عديد من الكليات والجامعات. وليس أثقل على النفس من أن ترى جامعيين بأسماءً عربية لكنهم يتصرفون كوكلاء عن الإمبريالية الأكاديمية الغربية.

 هذا الاستعمار الأكاديمي المتلاعب بعقول النخب الجامعية العربية هو النواة الصلبة للاستعمار الثقافي المفسد لأدمغة العامة، بل هو راس الحربة للاستعمار الاقتصادي والعسكري الذي لا يعمل من عندياته وإنما وفق دراسات تنفذها أذرعته الأكاديمية المنتشرة حول العالم. الاستعمار كله خطير. العسكري يقتل، والاقتصادي يسرق. والثقافي يمسخ. أما الأكاديمي فيستعبد من يفترض ألا يتخلوا عن الرسالة. 

فالعلوم الاجتماعية دون أية علوم أخرى لها رسالة كفاحية من لا يؤديها لا يصلح أن يكون من أهلها. إنه استعمار يشكك الجامعيين العرب في جدارة حضارتهم بل في جدارتهم هم أنفسهم في الوجود. يستعبدهم باسم التقييم والنشر باللغة الأجنبية وقول نعم للسيد الأبيض ليحولهم إلى نخب هزيلة ومشوهة لا تبدع وإنما تكتفي بالنقل والتقليد.

والمصطلح ليس بجديد نبّه إلى خطورته عدد من أبناء الجنوب من بينهم الماليزي النابه "سيد فريد العطاس" الذي اعتبر الإمبريالية الأكاديمية احتلال عميق يسرق الغرب به عقول أبناء الجنوب بطرق عديدة من بينها تعويدهم على الأفكار الغربية وأنها عالمية تناسبهم كما تناسب الغرب، وأن الاعتماد عليها هو المخرج من التخلف. والزن المستمر على أدمغتهم ليسلموا بأن النشر العلمي المؤثر لا يكون إلا بأدوات الغرب سواء بلغته أو عبر المنصات التي يتحكم فيها. وأن الجامعات العربية في حاجة إلى ميلاد ثان لن يتحقق إلا عندما تختم لها جهات الاعتماد الأجنبية على ذلك. وأن الفخر الأعظم لأبناء الجنوب يناله فقط من التحق منهم بالجامعات الغربية أو من ينشر منهم في بلاده لكن بلغة غير العربية. ولم يكن غريباً أمام تلك المظاهر أن اعتبر "سي. كي راجو" الباحث الهندي المرموق الاستعمار الأكاديمي "شكلاً من أشكال العنصرية."

 الاستعمار الأكاديمي أكبر عار حل بالعقل العربي منذ مائة عام. شل النخب الجامعية وحولها إلى ما يشبه الخدم عند السادة. "والسادة" في الغرب يخافون من العقول الحرة لأن أصحابها هم من يقول "لا." ولهذا كان على "السيد" أن يغري بعضهم ليشجعهم على الهجرة إلى الشمال، أو أن يطوع ويخضع من اختاروا أو اضطروا لأن يبقوا في الجنوب. هو استعمار خبيث يصادر حق البلدان العربية في تطوير قواعد علمية وطنية غير مستوردة ضمن صفقات ومشروعات للبيزنس.
   وسأكتفي بالإشارة إلى ثلاثة مظاهر مؤلمة من مظاهر كثيرة مؤلمة تعيشها كثير من الجامعات العربية بسبب هذا الاستعمار. يتصل (الأول) باللغة. وهي سلاح مهم لا أفهم كيف يتخلى عنه محارب بل أي إنسان عادي. 

أقولها ولا أخجل أني أشعر بالعار في كل مرة وجدت نفسي أخاطب فيها طلاباً عرباً بغير العربية. أحسست أني عبداً طُلب منه أن يستعبد بني جلدته لكي يتكلموا كلهم معاً بلغة السيد. إن هيمنة لغة السيد من صميم الاستعمار الأكاديمي وأكبر أداة من أدواته. يكفي أن أخبركم عن "اللا لغويين" وهؤلاء هم من لا طال عربي ولا حصل انجليزي. مسخ في مسخ، ألسنتهم عاجزة عن التعبير بلغتهم الأم التي ضيعوها أو لغة السيد التي فرضت عليهم. 

ويتجلى (المظهر الثاني) في قائمة مرعبة من مصطلحات ونظريات العلوم الاجتماعية التي تُدس دساً في عقول الطلاب ويتداولها الأساتذة دون أن يتحققوا من خطورتها أو التدقيق في أنها ليست من نتاج مجتمعاتهم ولا تمثل قيمها. والكلمات في العلوم الاجتماعية خطيرة، بل هي كالسلاح لأن لها مدلولات وحمولات كما أنها أولى لبنات السيطرة والتلاعب بالعقول.  وهذا تماماً هو ما يفعله الاستعمار الأكاديمي يفرض كلماته ومصطلحاته ونظرياته ويشمئز ويسخر من غيرها.

ويتعلق (المظهر الثالث) ببعض الأساتذة الأجانب، وهو بعض على ما يبدو ليس بقليل. وللأمانة هناك جزء مهم منهم يشهد له بالفضل ويتحلى بالرقي والمهنية ويمكن أن تأمن الأسر على تسليم أولادها أمانة لهم. لكن هناك آخرين قصتهم قصة. يذرفون دموع التماسيح، فيبرعون في مغازلتنا ودغدغة مشاعرنا منددين بالاستعمار متعهدين بمساعدة العلوم الاجتماعية العربية على الانتقال إلى مرحلة ما بعد الاستعمار.

يشعرونك بأنهم مهتمون بك وبأحوالك أكثر من اهتمامك بنفسك. لكن على عكس خطابهم الناعم يأتون بسلوك خشن عندما يطرحون مصطلحات ونظريات تؤكد بل وتؤبد الاستعمار. أمر يقاس على حادثة عبد الله بن سبأ، كاشفاً عمن ينخرط وسطك ليعمل ضدك. ولو كان هؤلاء حقاً حريصون على تحرير العلوم الاجتماعية العربية من الاستعمار لبقوا في عواصمهم وجامعاتهم لينددوا من هناك بمظالم حكوماتهم ليوقفوها من المصدر. 

الاستعمار باختصار ما يزال حياً، كما أنه كل لا يتجزأ، أبغض ما فيه أن أشكاله السياسية والاقتصادية والثقافية تحتاج إلى بوصلة توجهها. والبوصلة بكل أسف يقدمها الاستعمار الأكاديمي الذي تُرك من الباب المفتوح ينهش في قلب وعقل الأمة.