عمار علي حسن يكتب: من السماء إلى الأرض.. الحالة الدينية في مصر

ذات مصر

في عام 1995 اجتمع عدد من المفكرين والخبراء المصريين ليكتبوا تقريرًا ضافيًا عن الحالة الدينية في مصر، فدرسوا المؤسسات الرسمية مثل الأزهر ودار الإفتاء والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والكنائس الثلاث ومدارس الأحد، والطرق الصوفية، والجماعات السياسية الإسلامية، وأقباط المهجر، وصدر هذا في كتاب واسع الأرجاء. 

غاص التقرير في التاريخ ليؤصل لهذه المؤسسات والحركات، حتى وصل إلى وضعها في أيامنا، وحلل علاقتها بقضايا التنمية والديمقراطية والشرعية السياسية والمشروعية القانونية والفاعليات الاجتماعية والخيرية والأفكار المتداولة في المجتمع. تكرر التقرير في العام الذي يليه، فعمد على التقاط حالات دالة من بين كل هذا، منتقلًا من التعميم إلى التخيص، ومن التحليل الرأسي إلى الأفقي، ثم توقف الأمر عند هذين العامين، لكن هذه التفصيلات والخلاصات تركت بصمة، من دون شك، في دراسة التدين ومختلف إفرازاته في مصر. 

واستمرت الجماعة البحثية المصرية في مختلف المعارف والعلوم المرتبطة بالظاهرة الدينية تنتج، بشكل متفرق، ألوانًا متفاوتة العمق أو القيمة في هذا المسار، ليطرح كل هذا السؤال الجوهري: ما الدور الذي يلعبه التدين في الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المصرية؟ وهل حقا المجتمع المصري متدين بطبعه كما يحلو لكثيرين أن يصفوه؟

يمكن لمن أراد أن يقف على المؤسسات الدينية في مصر أن يعود إلى هذين التقريرين، لكنني في هذا المقام، وبالتوافق مع موضوع كتابي هذا، أريد مقاربة مختلفة إلى حد ما. وإذا كنت في مواضع أخرى تحدثت عن دور الدين في التكافل الاجتماعي، والتعبئة السياسية، فإنني هنا أبدو مهتمًا بالجانب الاجتماعي، لنعرف مدى تفاعل الدين مع أكثر المشكلات المصرية إلحاحًا، وهي المتعلقة بالفقر في المجتمع المصري حاليًا.

فمع التفاوت الطبقي المتصاعد في بلادنا، بفعل الظلم الاجتماعي، والفساد الإداري، والاستبداد السياسي، أجد نفسي بحاجة ماسة إلى مراجعة بعض الأفكار الدينية التي يتم استغلالها في تبرير الوضع القائم على ما فيه من اعتوار واعتلال وسخف. 

ولعل الفكرة الأبرز هنا تتعلق بما سبق أن قيل عن التساوي في الرزق بين البشر أجمعين، وأن الناس متساوون في أرزاقهم، فهذا أخذ نصيبه الأكبر صحة، وذلك أخذه مالًا، وذاك أخذه بنين، ورابع أخذه راحة بال أو سعادة، وخامس أخذه علمًا، رغم أننا وجدنا في دنيانا أناسًا كثيرين يعيشون في مرض وفقر وعقم وتعاسة وجهل، وعلى النقيض هناك من نجدهم قد أخذوا كل شيء، وصارت بأيديهم أسباب القوة وركائزها جميعًا.

ولا ينفع مع حال التناقض التام تلك القول إن هناك مساواة أو تطابقًا تامًا في الرزق بين الطرفين، ثم المحاولة، عبر طريقة جاذبة للبسطاء، تسويق وجهة النظر هذه، التي تكررت، فساحت في أرض المسلمين، وصار هناك من يرددها من عموم الناس، ومن يستغلها بين الطبقات المهيمنة، والسلطات السياسية المتجبرة، التي توظف الدين في تبرير الأوضاع القائمة.

هي طريقة ألفتها الحكومات المستبدة عبر التاريخ، وبلغت حدًا من الاستغلال دفع الفيلسوف الاقتصادي كارل ماركس إلى قول جملته الشهيرة: "الدين أفيون الشعوب"، والتي يرفضها المتدينون بدافع اعتقادي وعاطفي ونفسي، دون أن يمعنوا النظر في الأسباب التي دعته إلى هذا القول، وجعلت بعض الذين اتبعوه يفضلون الإلحاد على التدين، أو على الأقل ينظرون إلى استعمالات الدين، واستغلاله في تبرير الوضع السائد، نظرة نقدية فاحصة.

إن تاريخ مصر ينبئنا بجلاء أنه في أوقات الفقر والقهر، وعجز الناس عن تغيير أوضاعهم، يجلؤون إلى التدين الظاهري، كملاذ حماية من عسف الحياة، أو كمسار عدل مؤجل ينتظرونه في السماء، بعد أن يأسوا من تحقيقه على الأرض. وبذا يلعب الدين دورًا أبعد عن مقصده، في حشر الناس في زاوية التواكل والكسل أو اللامبالاة الدنيوية، مع أن الأديان نفسها كانت ثورة روحية واجتماعية على التفلت والظلم. 

وما يزيد الطين بلة أن أتباع هذه الرؤية يمدونها في اتجاه آخر ليقولوا إن ما ينتجه الغرب من رزقنا نحن، فأهله يتعبون من طول التفكير، وعناء الابتكار، وبذل الجهد المضني، ثم ينتجون لنا الآلات على اختلاف أنواعها وألوانها وأحجامها وأوجه استخدامها، لنستوردها ونستمتع بها ونحن في دعة وسعة وبلا عناء في التفكير أو التدبير. 

مثل هذا التصور كفيل بصناعة أقصى وأقسى درجات التراجع والتخلف عن ركب الأمم، وكان من المنطقي أن يتصدى كثيرون لتفنيده، وهم على ثقة تامة من صدق مسلكهم، وعلى إيمان بأن الأمر لا يحتاج إلى جهد جهيد في إقناع الناس بهذا.

هذا التصور عن الرزق، وهو المسألة الأكثر إلحاحًا على أذهان المصريين في الوقت الراهن،  ظل ساريًا وجاريًا، يردده الناس في كل مكان، وهو ما يجب تفنيده هنا، أو محاولة طرح وعرض تصور أكثر منطقية حول مسألة الرزق، لا تؤدي إلى توظيف الدين في تخدير الناس، وجعلهم يرضون بأوضاعهم البائسة، ويظنون وهما أن ما هم فيه هو قدر لا فكاك منه، وأن محاولة الخروج منه أو التمرد عليه، هي تعبير عن عدم الرضاء بما قسمه الله سبحانه وتعالى.

أتصور أن عدل الله، جل جلاله، يمضي في اتجاه غير الذي أدركه هؤلاء وردده دعاة ووعاظ وأهل فتوى وخطباء، وآمن به كثيرون، وتعاملوا معه على أنه حقيقة دينية راسخة. فالله يسأل الناس على قدر ما أعطاهم، فمن أتاه علمًا، سيسأله في الآخرة عما فعل بما تعلمه، هل نفع به الناس ودافع به عن الحق والحقيقة؟ أم استخدمه كقلادة زينة ليضعها في عنق كل قبيح؟ أو وظفه في خدمة الطغاة والعصاة والجباة؟ ومن أعطاه الله مالًا يسأله فيما أنفقه؟ هل في وجوه الخير؟ أم تبطر به وطغى وضن به على خلقه من الفقراء؟ ومن أعطاه صحة سأله هل استعملها في البناء والتعمير؟ أم في التخريب والتدمير؟ 

وهكذا عن كل الحالات والأوضاع. فكل مسؤول أمام الله على قدر ما أعطاه، ولهذا فإن الغني العارف المعافى الولود السعيد، سيختلف سؤاله عن الفقير السقيم الجاهل العقيم التعيس، وبين هذين الحدين، الأقصى والأدنى، هناك حالات متنوعة لحال البشر، تتفاوت في درجاتها وطبقاتها، وعلى قدرها سيكون السؤال، مع الأخذ في الاعتبار، وهذا منطقي أيضًا، أن الإنسان مطالب بالسعي الدؤوب في سبيل تحسين شروط حياته، والله تعالى يعلم ويُقَّدِر ويقرر.

أفرطت هنا في الحديث عن التدين ومسألة الفقر، لأنها الأكثر إلحاحًا على المصريين في ظل ظروفهم الحالية. لكن توظيف الدين في محاربة الفساد المالي والإداري والأخلاقي والغش التجاري، واستعمال الخطاب الديني أيضًا يجب أن يمثل لدينا قوة دافعة في حض الناس على العمل وإتقانه، وعلى البذل وإتيانه، وعلى مقاومة القهر والاستبداد، والتصدي للاحتقان أو الفتنة الطائفية، وكل هذا من الأمور المهمة لمجتمعنا الآن. 

وهنا يبرز الاعتدال الديني في مواجهة مثيري الفتنة الطائفية في وجه الوحدة الوطنية، التي تشكل أحد أعمدة مصر الرئيسية، وفي وجه تنظيمات وجماعات سياسية دينية متطرفة، طالما حملت السلاح في وجه السلطة والمجتمع، وطرحت أفكارًا ممقوتة عن الكراهية والنبذ والهجرة والعزلة وتكفير كثيرين، وتفسيق أو تكفير من لا ينتمي إليها.

ويبرز التدين كله في مواجهة موجة إلحاد تسري في أوصال المجتمع، أغلبه نوع من القنوط، أو فقدان الثقة في وعاظ الدين، أو العجز في مواجهة تصاريف حياة قاسية قاهرة غارقة في الظلم والظلام، أو الاندهاش من نصوص منسوبة لأنبياء أو رسل، أو عدم الاقتناع بتفسيرات وتأويلات لمسائل عقدية تم تركيبها بشريًا، أو بسبب ما ظهرت عليه جماعات ما يسمى "الإسلام السياسي" من شهية مفتوحة على ملذات الدنيا من سلطة وجاه ومال، بعد طول قول عن الزهد والترفع والنزوعة الرسالية الخالصة.   

قلة من الملحدين في مجتمعنا تجد لها موقفا فلسفيا من الخلق ورواياته التي حملتها النصوص الدينية في التوارة والإنجيل والقرآن، ومن الكون ونشأته، ومن الحياة وسريانها وقوانينها وتفاعلاتها بين مختلف أنماط البشر، وعن القيم السلبية التي لها الغلبة من فقر وقهر وظلم واستبداد، ومن الطبيعة وتطوراتها التي يرجع هذا الصنف من الملحدين لها كل شيء، وعن المصادفة التي ولد بها الكون في وجه الذين يؤمنون بأنه من صنع خالق قادر متعال عظيم.

ويواجه مجتمعنا أيضًا ظاهرة التسلف والماضوية، التي ترى أن ما مضى خير مما هو قائم، وأفضل مما سيأتي. وهي حالة لا تقتصر على جماعات متسلفة في رحاب الدين الإسلامي، بل نراها في تصورات مسيحيين أصوليين، لا تختلف رؤاهم عن أمثالهم بين المسلمين واليهود.

وكغيره من المجتمعات الإنسانية، يواجه المجتمع المصري آثار ما يسمى بـ "التدين الرقمي"، حيث ساحت في فضاء الإنترنت، سواء مواقعه الدينية أو شبكات التواصل الاجتماعي، الكثير من الرؤى الدينية، التي يغلب الغث فيها السمين، ويغلب السطحي فيها العميق، وتتعدد الإحالات وتتناثر بلا توقف، ويكثر السجال العقائدي، ويلبس لبوسًا طائفيًا بين مسلمين ومسيحيين، ولبوسًا مذهبيًا بين سنة وشيعة، وأردية فكرية بين محافظين ومجددين.