دكتور محمد عبد الكريم يكتب: حالة الإرهاب في أفريقيا في النصف الأول من العام 2023

ذات مصر

ازدحمت الأحداث السياسية في القارة الأفريقية في النصف الأول من العام الجاري (2023) على نحو تراجع على خلفيته الاهتمام الإعلامي التقليدي بمسألة الإرهاب لصالح مستجدات وتطورات هامة من قبيل ما تقوم به مجموعة فاغنر في عدد من الدول الأفريقية، وأزمات مثل السودان، والحالة المضطربة للغاية لتدخلات القوى الإقليمية والدولية في شئون القارة وقضاياها.

 

تراجع المقاربات الأمنية

 

اتضح من الأدبيات الذائعة المتعلقة بقضية الإرهاب في أفريقيا وجود تراجع حاد في سريدة المقاربات الأمنية التقليدية للأزمة وجنوح أكبر لتفهم جذور المسألة في المجتمعات المختلفة، عوضًا عن الاهتمام بشكل أكبر بالأسباب المباشرة مثل التنافس الدولي وتراجع الديمقراطية والتنمية في الدول المتضررة. ومن أهم هذه التقارير تقرير صادر عن الأمم المتحدة مطلع فبراير 2023 توصل الخبراء الذين صاغوه إلى أن الفقر وتوقعات الحصول على "عمل براتب أفضل"، وليس الأيديولوجيا، هما أهم عوامل تغذية التجنيد في الجماعات "الجهادية" والعنيفة. وشككت هذه الخلاصات في الاقتناعات التقليدية بأن المبدأ الديني هو نقطة الجذب لرئيسة للانضمام لجماعات مثل بوكو حرام والشباب.

وقامت الدراسة على مقابلات أجراها البرنامج الإنمائي للمم المتحدة UNDP في العام 2021 مع نحو 2200 شخص في ثمانية دول متضررة من أنشطة جماعات الإرهاب والعنف وهي الصومال ونيجيريا ومالي وبوركينا فاسو وتشاد والكاميرون والنيجر والسودان، وشملت المقابلات نحو 1200 شخص من الأعضاء السابقين بجماعات التطرف من بينهم نحو 900 انضموا لهذه الجماعات طواعية([1]).  

 

كما اتسقت خلاصات "مؤشر الإرهاب العالمي 2023" مع الملاحظة السابقة؛ ففيما يخص إقليم الساحل رصد التقرير بشكل ملفت في نسخته الأخيرة العوامل المتشابكة التي توفر حاضنة "مثالية" لنمو الإرهاب؛ ووصف الإرهاب بانه يحدث كتكتيك داخل وضع صراع، وتستخدمه مجموعات متطلعة لتحقيق تغيير سياسي. وتسهم في ذلك عوامل عدة في الأزمة الحالية في الساحل بما فيها التغير المناخي وتردي الحكومة السياسية والاستقطابات الإثنية وإساءة استخدام أجهزة الدولة لصلاحياتها والصراعات في مناطق الرعي ونمو الأيديولوجيا الإسلامية السلفية عبر دول الساحل والصراع على استخراج الموارد الطبيعية ووجود لاعبين من الخارج (مثل فرنسا حسب نص التقرير في إشارة "ثورية للغاية" تؤشر إلى حجم التغيير البالغ في التأصيل لظاهرة الإرهاب في القارة الأفريقية)([2]). 

 

وبشكل عام فإن هذه الملاحظات وغيرها في مواضع كثيرة تكشف عن حجم التغيير الكبير في مقاربة الإرهاب في أفريقية والابتعاد التدريجي عن المقاربات الأمنية التقليدية التي طالما قدمت -في الغالب- تفسيرات أحادية البعد للظاهرة وساهمت -بشكل متراكم- في قصور فهمها والتعامل معها "كفزاعة" مجتمعية، بل وتوظيفها أحيانًا في أدوار سياسية دولية وإقليمية وداخلية إما لتبرير التدخل الخارجي واستمرار الهيمنة والاستغلال (الاقتصادي والسياسي)، أو لمواجهة اتهامات الفساد وعدم الديمقراطية داخليًا.  

 

الإرهاب في أفريقيا في النصف الأول من العام 2023: الاتجاهات والسمات

 

وفرت إحصاءات هامة عن إجمالي الهجمات الإرهابية والوفيات نتيجة مثل هذه الحوادث صورة واضحة عن حالة الإرهاب في أفريقيا في الربع الأول من العام الجاري. فقد شهدت القارة في الفترة من 1 يناير حتى 31 مارس 2023 وقوع 426 حادثًا من بينها 19 حالة خطف. ونتج عن هذه الحوادث مقتل 2809 شخص، كما جرح 719 شخص خلال هذه الهجمات وما تلاها. وتظهر البيانات تراجعًا مستمرًا في الهجمات والوفيات من يناير إلى مارس 2023.

بأي حال فإن إجمالي الهجمات والوفيات المسجلة في الربع الأول من العام الجاري زادت بنسبة 43% و60% على الترتيب مقارنة بالربع الأخير من العام 2022. كما زادت أرقام الهجمات في الربع الأول من العام الجاري مقارنة بنظيرتها في العام 2022 بنسبة 12% مع تراجع الوفيات بنسبة 1%([3]).  

 

وفي مؤشرات دالة يلاحظ من الإحصاءات المذكورة وجود تغير هام في "الأهداف" البشرية للحوادث الإرهابية. وبعد أن كان المدنيون هم النسبة الأكبر من ضحايا العمليات الإرهابية تراجعت نسبتهعم في الربع الأول من العام 2023 لتصل إلى 38% (من إجمالي القتلى والمصابين) مقارنة بالضحايا في صفوف القوات الأمنية والعسكرية الذين بلغت نسبتهم 53%، ثم عمال المنظمات الدولية بنسبة 5% والمسئولين الحكوميين بنسبة 4%.

ويرجع هذا التحول إلى هجمات جماعة الشباب التي تجددت في كينيا (ووصلت ذروتها في يونيو 2023 باستهداف نحو 50 جنديًا أوغنديًا في واحدة من أكبر خسائر القوات العاملة في الصومال منذ بدئها)، وهجمات تنظيم الدولة في ولاية غرب أفريقيا في نيجيريا. لكن مثل المدنيون الشريحة الأكبر في أعداد القتلى إذ لقي 1226 فرد مدني مصرعهم، مقابل 788 عسكري وأمني، فيما قتل 795 عنصر إرهابي([4]). 

 

أما على الصعيد التقني فقد لجأت الجماعات الإرهابية إلى استخدام الأسلحة الصغيرة والخفيفة Small Arms and Light Weapons (SALWs)  في 301 هجمة من 426 هجومًا خلال الفترة المذكورة وأسفرت هذه الحوادث عن مقتل 2232 بنسبة 79% من جميع وفيات هذه المرحلة. كما استخدم الإرهابيون IED في 102 هجومًا مما أسفر عن مقتل 412 شخص (بنسبة 15%).  واستخدمت الجماعات في أربعة هجمات مزيدًا من الأسلحة الصغيرة والخفيفة وIEDs وقتل إثرها 150 شخص (بنسبة 5%). وسجلت 19 حادثة خطف قتل منهم 15 شخصًا في الفترة المذكورة([5]).  

 

أما من ناحية التوزيع الجغرافي للعمليات الإرهابية وضحاياها فقد استأثر إقليم غرب أفريقيا بالنصيب الأكبر من الضحايا (1463 فرد)، ثم وسط أفريقيا (677 فرد)، وشرق أفريقيا (627 فرد)، وجنوب أفريقيا (35 فرد)، وشمال أفريقيا (7 أفراد). ويتناقض مع ذلك استئثار جماعة الشباب في الصومال بالمركز الأول في الهجمات الإرهابية في الربع الأول من العام الجاري حيث شنت 135 هجومًا أسفر عن وقوع 481 صحية بين قتيل ومصاب (ما يعني مسئوليتها عن أكثر من 80% من ضحايا الإرهاب في إقليم شرق افريقيا).

وتلت الشباب في الخطورة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (وهي جماعة مظلية للجماعات المنتمية للقاعدة أيديولوجيًا وحركيًا في غرب أفريقيا) التي ارتكبت 46 عملية إرهابية أسفرت عن 321 ضحية بين مصاب وقتيل؛ تلتهما جماعة الدولة الإسلامية في إقليم غرب أفريقيا (41 عملية أسقطت 106 من الضحايا)، والقوات الديمقراطية المتحالفة (37 عملية و262 ضحية)، وجماعة أهل السنة والجماعة (في شرق افريقيا وخاصة في موزمبيق، 28 عملية و30 ضحية)، ثم بوكو حرام في الترتيب السادس في ترادع كبير لحضورها الإرهابي (21 عملية و50 مصاب وقتيل)([6]). 

 

وتكثفت في الربع الثاني من العام الجاري (أبريل- يونيو 2023) الحوادث الإرهابية في الصومال بشكل ملحوظ وعلى نحو يعزز هذا المسار التصعيدي وعودة شرق أفريقيا إلى صدارة الأعمال الإرهابية، وهو مؤشر خطير بالنظر إلى تصاعد المد الإرهابي في وسط أفريقيا المجاورة، وتزايد احتمالات تمدد رقعة الانتشار الجغرافي للجماعات الإرهابية المختلفة في هذه المناطق وصولًا إلى الاتصال بإقليم الساحل دون انقطاع جغرافي يذكر.

 

اتجاهات الإرهاب حتى يونيو 2023: عودة جدل الإرهاب والفساد

 

كان هجوم جماعة الشباب 26 مايو 2023 على قاعدة للجنود الأوغنديين في الصومال (ضمن قوات الاتحاد الأفريقي المعروفة ببعثة الاتحاد الأفريقي المؤقتة في الصومال أتميس African Union Transition Mission in Somalia ATMIS)، وتكبيد هذه القوات مقتل العشرات من جنودها مؤشرًا دالًا في اتجاه التحليلات السابقة. وكان الحادث قد دفع الرئيس الأوغندي يوري موسيفني وسط جدل سياسي داخلي متزايد حول  ارتباط الفساد بالخسائر السياسية في مواجهة الإرهاب والعنف المسلح. وقد قتل في الهجوم الإرهابي على إحدى قواعد العمليات الأمامية forward Operating Base (FOB) في بولو مارير بشبيلي الأدنى (120 كم جنوب غرب مقديشو) إلى مقتل 54 جندي وهو أعنف هجوم تتعرض له أوغندا منذ العام 2007 عند بدء نشر قوات الأخيرة في الصومال. وبرر موسيفني الخسارة الفادحة بان نحو 800 عنصر إرهابي قاموا بالهجوم في عملية عسكرية جيدة الإعداد. كما لفت في الحادث تمكن العناصر الإرهابية من الا على مجمل معدات القاعدة العسكرية واسلحتها مما يشير إلى تصعيد مرتقب في أنشطة جماعة الشباب في الأسابيع المقبلة([7]). ومما يعزز من تلك الفرضية ما أوردته جماعة الشباب نفسها من أن الهجوم قد أفضى إلى مقتل ما لا يقل عن 130 جندي من قوات الجيش الأوغندي من بينهم قائدين كبيرين([8])، في إشارة ربما إلى وجود تضليل إعلامي رسمي من قبل الحكومة الوفندية بخصوص الخسائر.

 

ورصدت الأمم لامتحدة منتصف العام الجاري تصاعد موجة الإرهاب في أفريقيا وسط نمو العوامل المؤدية له مثل الفقر والبطالة والجوع باعتبارها عوامل رئيسة في هذا التصاعد.  كما تزامن مع تصعيد جماعة الشباب السابق عودة بوكو حرام في غرب أفريقيا للقيام بعمليات واسعة إذ استهدفت عملية لها مطلع يونيو الجاري منطقة في الكاميرون وادت إلى مقتل ثمانية افراد. وعلق عسكريون نيجيريون على تصعيد النشاطات الإرهابية بالتأكيد على تجنيد عناصر غير ذات تعليم لائق لكنها تمتلك "خبرة عسكرية"([9]).  

 

الإرهاب في وسط أفريقيا: الدول راعية الإرهاب؟

 

جددت خطوة الرئيس الرواندي بول كاجامي (7 يونيو الجاري) بعزل عدد كبير من قيادات الجيش الرواندي تساؤلات خطيرة حول مدى جدية الاتهامات الكونغولية المنتظمة التي طالت نظام كاجامي بدعم الأنشطة الإرهابية في شرقي الكونغو. 

 

فقد أقدم كاجامي على اكبر حركة إقالات جماعية منذ تقلده السلطة في صفوف الجيش الرواندي الأربعاء 7 يونيو، مع تعيين وزير دفاع جديد للبلاد. وكان من أبرز هؤلاء المفصولون الميجور جنرال ألويس موجانجا  Aloys Muganga وفرانسيس موتيجاندا Francis Mutiganda على خلفية ما وصفته الحكومة "بإساء التصرف". وبمقتضى هذا التفسير، ووفقًا للقانون الوراندي، فإن المفصولين (الذين بلغ عددهم 14 ضابطًا و200 فرد من عناصر الجيش الرواندي) سيسلمون معداتهم العسكرية ويتركون الجيش دون الحصول على اية تعويضات او مكاسب. ولفت مراقبون إلى أن هذه التغيرات تأتي وسط تصاعد في التوتر الرواندي الكونغولي نع تعاظم اتهام كينشاسا لكيجالي بدعم المتمردين في شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية([10]). 

 

وجاءت خطوة كاجامي في سياقات ازمة الإرهاب في أفريقيا مؤثرة من ناحيتين على الأقل؛ الأولى أنها تعزز فرضيات تورط دول معينة في أنشطة إرهابية في دول أخرى رغم تباين المصطلحات المستخدمة، حيث ترى أدبيات متعلقة بالإرهاب ضرورة التمييز بين الأخير والحركات المسلحة والعنف المجتمعي والقبلي وعلى الموارد الخ، في حين أن الممارسات الفعلية على الأرض تعزز نمو الإرهاب وجماعاته بشكل مباشر كما في حالة شرقي الكونغو ووسط أفريقيا ككل. أما الناحية الثانية فتتمثل في الإشارة المحتملة إلى تطور معلوماتي خطير ودال على تورط حكومات في الإقليم، لها ارتباطات بدول مثل إسرائيل وعدد من الدول الخليجية، في هذه الأنشطة الإرهابية تعزيزًا لمصالح هذه الشبكات الاقتصادية وعلى حساب مفاهيم حفظ الأمن والسلم الدوليين، وما يعنيه ذلك من لعب دول أدوار الفاعلين من غير الدول وما يشير غليه كل ذلك من عمق تعقيد ظاهرة الإرهاب في القارة الأفريقية بعيدًا عن التفسيرات التقليدية الراسخة. 

 

خلاصة

 

تصاعدت ظاهرة الإرهاب في أفريقيا في النصف الأول من العام الجاري بشكل واضح؛ وتؤشر التطورات الأخيرة إلى تغيير محتمل في الصورة النمطية للإرهاب وتعمق ارتباطاته بالأزمات السياسية والأمنية التي تسود في العديد من الدول الأفريقية، عوضًا عن بروز عامل الفساد الحكومي كمؤثر في تعاظم الظاهرة، وجنوح أكبر لتفسير الظاهرة برمتها في سياقاتها السوسيولوجية على نحو يعزز مقاربة أدق للظاهرة وارتباطاتها بالفاعلين من الدول وغير الدول.

 

[1] Religion is not the driving force behind recruitment to jihadist groups says UN, RFI, February 7, 2023 https://www.rfi.fr/en/africa/20230207-religion-is-not-the-driving-force-behind-recruitment-to-jihadist-groups-says-un 

 

[2] Global Terrorism Index 2023, Institute for Economics and Peace, March 2023, p. 62. https://www.visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2023/05/GTI-2023-web-190523.pdf  

 

[3] The Quarterly Africa Terrorism Bulletin (QATB), First Quarter/ January- March 2023 (edition 004), African Centre for the Study and Research on Terrorism(ACSRT), April 2023 https://caert.org.dz/Medi-review/Terrorism-bulletin/AFRICA%20TERRORISM%20BULLETIN%20-%20First%20Quarter%202023%20-%20Edition%2004.pdf 

 

[4] The Quarterly Africa Terrorism Bulletin (QATB), First Quarter/ January- March 2023, p. 8. 

 

[5] The Quarterly Africa Terrorism Bulletin (QATB), First Quarter/ January- March 2023, pp. 8-9

 

[6]Ibid, p. 11. 

 

[7] Edward Nyembo, Corruption, no quality control…factors in AU Somalia mission attack, The Africa Report, June 7, 2023  https://www.theafricareport.com/311833/uganda-corruption-no-quality-control-factors-in-au-somalia-mission-attack/ 

 

[8] Laureen Fagan, Uganda forces death toll at 54 after Somalia attack, Africa Times, June 5, 2023 https://africatimes.com/2023/06/05/uganda-forces-death-toll-at-54-after-somalia-attack/ 

 

[9] Terrorists recruit uneducated people in Africa - retired military officer, Big News Network, June 6, 2023 https://www.bignewsnetwork.com/news/273856054/terrorists-recruit-uneducated-people-in-africa---retired-military-officer 

 

[10] Agence France Presse, Rwanda's Kagame Orders Major Military Purge, Baron’s, June 7, 2023 https://www.barrons.com/news/rwanda-s-kagame-orders-major-military-purge-225f52f5?refsec=topics_afp-news