د. هشام الحمامي يكتب: (نخبتنا البديعة) بين الفراغ الرهيب.. ووصية لا تعرفها!

ذات مصر

لا أدرى في حقيقة الأمر هل ما يحدث أمام أعيننا في المشهد العامالسياسي والاجتماعي العام حقيقة فعلية تهدف الى أهداف حقيقية..أم أن الموضوع لا علاقة له بالموضوع  كما يقولون ، وأنه فقط الفراغالرهيب يكاد ينفجر محولا كل الفارغين إلى أشلاء منثورة أو دخانامتطايرا في  سحابة سرابية ما تكاد تظهر حتى تختفى.. ونسمع معه صوت (صوفى)وهى تنادى على أختها(آن)في قصةالأديب شارل بيرو(ت/1702م) الشهيرة (ذو اللحية الزرقاء): آن يا أختى آن ألا ترين أحدا قادما .. فترد آن : لا شيء يحدث ..لا أحد يجىء..  

إنهم يجتمعون ..ثم إنهم يجتمعون .. وإنهم ليقولون .. ثم إنهم ليقولون.. وإنهم لينامون ثم إنهم يصبحون.. فيجتمعون .. ويقولون .. ويقولون.. وهكذاسيظل الصراخ في(البدروم)..وهم يبحثون عنه على( السطوح).. لأن بالهم لم ينشغل أبدا بالبدروم ولا من يسكنون ويصرخون فىالبدروم ..

 

بالهم كله في العلالى على السطوح .. تماما مثل ذلك الذى يحب فقطمسار(اللعبة)المفضي إلى الهدف، ولا يحب(الهدف) ذاته ..   لكنأيها السادة..لاحظوا جميعا الحد الذي يستطيع الإنسان اليائس أنيبلغه ..!!كما يقول ديستويفسكى(ت1881م) أديب روسيا الاشهر..

***

ما هي تلك الوصية التي لا يعرفها أهل الفراغ الرهيب .. ؟؟ أو لعلهميعرفونها ولكنهم مشغولون بالأضواء عفوا أقصد بالضوضاء .. الضوضاء التي في البدروم ..!

كثيرون لا يعرفون أسم (إبراهيم شحاتة ت/2001م) صاحب هذهالوصية..  سيكون هاما أن نعرف أولا أن الوصية نفسها كتبها د/ إبراهيم سنة 1999م ،وقدمها للمسؤولين في مصر عن طريق د/أسامةالباز(ت/2013م) رحمه الله ، حيث جمعتهما صداقة قديمة وقتدراساتهما معا في الستينيات بجامعة هارفارد الأمريكية ..

انشغل د/ أسامة بما أنشغل به ولا يعرف أحد هل حصل علىالدكتوراه أم لم يحصل .. لكنه كان قادما من أعماق  دولة الخمسينياتوالستينيات  التي كانت تؤسس لنفسها أمنيا عميقا عميقا .. وكانت لهانشغالاته(الدولتيه) التي ربما عطلته قليلا عن الدراسة الأكاديمية ..

لكن صاحبنا حصل عليها وكانت عن (محكمة العدل الدولية) ووصفتالجامعة الرسالة بأنها رفعت من قيمة شهادة الدكتوراه ومن شأنالجامعة ..!

لننحى التواضع جانبا الأن ، ودعونا نمارس اعتزازنا المشروع  بأمتنا وحضارة أمتنا ونذكر هنا أن جامعة هارفارد تضع في المدخل الرئيسيلكلية(القانون)  نقشا مكتوبا  عليه الآية 135 من سورة النساء ..التيتبدأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ..).                              

***

تقول الحكاية أن د/إبراهيم كان أول دفعته فى حقوق القاهرة سنة1957م _وهذه الدفعة كان بها الراحل كمال الشاذلي البرلماني الشهيرفى عهد مبارك وعمرو موسى وزير الخارجية _ فور تخرجه عملبمجلس الدولة  لمدة 3 سنوات ،

وكان ينشر في مجلة المجلس بحوثا ومقالات عن(الشريعة الإسلامية) وكانت تلك طبيعة المجلة فيما يبدو ، لأن مؤسسها  عام 1950م كانصاحب العلامة السنهوري باشا (ت ١٩٧١م)لكن ذلك النهج العلميالمبكر باتجاه بحوث الشريعة الإسلامية لم يستمر طويلا مع د/شحاتهبل إن له موقفا قاسيا بعض الشيء على (التيارات السياسيةالإسلامية) التى كانت سائدة في الأربعين عاما الماضية والتي لم يكنيٌعرف عنها ، هل تريد إصلاح الدولة بالمجتمع ، أم إصلاح المجتمعبالدولة ..؟

الحاصل أنه بعد عودته من أمريكا عين مدرسا بحقوق عين شمس ولكنهلم يستمر، وسار في طريق أخر بدأه بالعمل في الكويت مستشاراقانونيا في الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومنخلاله عمل في صندوق منظمة الأوبك(المصدرة للبترول)بفيينا ، ومنهاإلى البنك الدولي عام1983م حتى وفاته عام 2001م حيث كان نائبالرئيس البنك الدولي للشئون القانونية ..

لكن ما علاقة التخصص في المجال القانونى بالاقتصاد والتنمية؟ ..

التطورات السياسية والاقتصادية الدولية هي التي أتاحت له الاقترابمن أعمال اقتصاديات التنمية ، وذلك بعد انفجار مشكلة المديونيةالدولية ، حين أعلنت المكسيك عام 1982 عدم سداد ديونها وتبعتهاالأرجنتين وشيلي مما أدي إلي ارتباك كبير في النظام المالي الدولي.. فيٌطلب من الدكتور إبراهيم شحاتة إعداد القانون الأساسي لتلكالمنظمة .. وأكسبه ذلك العمل واستمراره فيه.. معرفة واسعةباستراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولماذا تنجح دول.. والأهم..! لماذا تفشل أخري؟  

بعد وصوله إلى درجة نائب مدير البنك الدولي للشئون القانونية كانيحضر كل الاجتماعات تقريبا في البنك وكان ذلك مصدرا مهماللمعلومات والدراسات التنموية والتي ظهرت بعدها ، وهو ينظر بعينالآبن البار إلى (وطنه الأم) في تقديم دراسات مهمة عن الإصلاحالاجتماعي والاقتصادي والدستوري  لبلاده فكتب :  كتاب (برنامجالغد سنة‏1987‏ ) وكتاب (نحو الإصلاح الشامل سنة‏1992‏ ) ثم كتاب(وصيتي لبلادي سنة‏1999).

***

كتاب (وصيتي لبلادي) يبدأ باستحضار الآية الكريمة (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَابِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) من سورة الأنفال والآية الكريمة(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) منسورة الرعد..

الرجل كان صادقا مع حقائق التاريخ الوجودى لأمته وحضارته ، باعتبار الإسلام أكثر تجليات قوة الأمة وهو الأساس للإحساسالمشترك وهو الذى يمنح هذه الأمة الوحدة والقانون والثقافة                                                                                            

ثم يضي بعدها كلمات من الجزء الثانى من مذكرات جانمونيه(1888-1979م) الملقب بالأب الروحى للاتحاد الأوروبي فيقول ‏:‏ ينبغي لتغيير مجري الأشياء أن ننجح في (تغيير روح الناس‏) ، ولايغير الوضع الجامد الحالي إلا عمل مباشر ينصب علي نقاط رئيسية‏:‏ عمل متعمق وحقيقي ودرامي يغير الأمور ويدخل في مجال الحقيقةالتطلعات التي كاد الناس أن يفقدوا أي أمل في تحقيقها.                                  

ثم يقول د/إبراهيم في المقدمة‏: ‏مازلنا باختصار في حاجة ماسة إليالتغيير‏.. تغيير أنفسنا وتغيير سلوكياتنا‏ وتغيير مفاهيمنا حول التعاملفيما بيننا ومع الآخرين‏.‏ مازلنا في حاجة إلي وفاق مشترك يأتي نتيجةطبيعية لحوار عريض ولمعرفة ما يجري في مجتمعنا واقتصادنا ومايجري حولنا في العالم‏،.. ولقد كتبت وصيتي لبلادي من أجل هذاالتغيير الذي نحن في حاجة إليه من أجل أنفسنا ومن أجل أبنائناوأحفادنا.

***

أهم ما لفت نظرى في الكتاب هو اهتمامه بموضوع (الفساد) الذىيعتبره أكبر عقبة في سبيل الاصلاح وهو يرى أن الفساد لا يقتصرعلي الحكومة وأجهزتها البيروقراطية‏, كما انه لا يقتصر علي تقديمالرشاوي أو قبولها‏ إنما يأخذ أشكالا وصورا مختلفة ويمكن أن تتمممارسته في ظل نظم الحكم المتباينة‏‏ وفي داخل كل السلطات . ولا حلله إلا في قوة الدولة و(توسع المجتمع المدني)  ..  

يتحدث أيضا فيه عن الخيارات المتاحة لمصر‏ (إلى الخلف /إلى الأمام/ محلك سر)‏ وأيضا عن إعادة تنظيم جهاز الدولة‏‏ والقضاء علي الأميةورفع مستوي التعليم وانطلاق القطاع الخاص والتوسع الكبير فيالصادرات (أهم مصادر الدخل القومى ).                                                        

ويتحدث عن الحركات التي تسمي نفسها (إسلامية)_هكذا قال! _ وبأن لديها الحل لكل مشاكل المجتمع كشعار عام ولا تقدم بعده للناستحليلا وافيا للتفاصيل التي يقتضيها هذا الحل، ويقول جملة خطيرة : إنهم أخذوا الإسلام رهينة لطموحاتهم السياسية ..

والأمر متروك للتاريخ عموما ..

الكتاب يمتلئ بالموضوعات الفكرية والاقتصادية والسياسية والمجتمع والدولة والحاضر والمستقبل. وهو جدير بالقراءة والمناقشة العميقة . والأهم توسيع نشره والتعريف به ..

بل وأطلب من (نخبتنا البديعة)التي لا تمل من عقد الاجتماعاتوالتحالفات أن يجعلوا من هذا الكتاب ( دستور الوقت) .. ويتناولونهبهدوء وعمق وفهم .. ويجتمعوا عليه بدلا من التفرق فى متاهات إعادةتعرف العجلة .. عفوا أقصد (الإرهابى) ..

والأهم أن يأخذوا بنصيحة العم كونديرا الأديب الشهير صاحب رواية(حفلة التفاهة) بأن لا  يأخذوا أنفسهم بجدية مبالغ فيها .. ولا يرهنواأنفسهم  لدور بطولي خارج زمنهم التاريخى ..

قد يأتي مستقبل يكون فيه هذا الدور .. وساعتها سيطلببنفسه(أبطاله).