هشام الحمامي يكتب: المثقفون والقناع!

ذات مصر

منذ صدور كتاب (خيانة المثقفين) للمفكر الفرنسي جوليان باندا (ت/1956م) والذي يشير إلى تخلي المثقفين عن استقامتهم الفكرية وقبولهم بمغريات السلطة وانحيازهم لمصالحهم السياسية والنفعية على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية.. منذ صدور هذا الكتاب وصار عنوانه مصطلحا حاضرا بوضوح في الحياة العامة.. بل ويتسع حضوره وتتعدد شواهده يوما بعد يوم، على الرغم مما فيه من صراحة حادة.
تحدث (باندا) عن المثقفين باعتبارهم في مرتبة تفوق مرتبة البشر العاديين! هم يعتبرون أنفسهم كذلك، والناس بدورهم ينظرون لهم كذلك.. وهم بالطبع ينبغي أن يكونوا كذلك وجديرين بذلك.. ليس لطأطأة اللسان بالتعبيرات والمصطلحات المزخرفة، لكن لأهم سبب وهو (المجاهرة بالحق) و(نصرة الضعفاء).
***
إذا لم يفعل المثقف ذلك، واختار الوقوف على الجانب الخطأ من مجرى التاريخ، وهو جانب (الباطل القوى) فهو يكون بذلك الخيانة نفسها، وليس خائنا فقط! لأنه ببساطة.. يرى ما لا يراه غيره من عواقب هذا المجرى.
اهم ميزة يمتاز بها المثقف هي (التبصر) بما لم يأت بعد، فإذا دلس في هذه الميزة لمنفعة (حاضرة) عابرة سريعة.. سيكون حينها في أسفل السافلين.. فغيره قد يعذر بجهلة، أما هو لا عذر له إطلاقا.. 
***
في سنة 1961م دارت في مصر نقاشات طويلة حول تعريف المثقف، ودوره الذي ينبغي له أن يؤديه. 
لم يأخذ النقاش مساره الصحيح.. وهو ما كان متوقعا بطبيعة الحال في هذا الزمن الصعب.. زمن الدولة القابضة على كل المقاليد، الدولة التي سيتم تصعيد واختزال وتكثيف، دورها بالتدريج من أدنى درجات السلم إلى أعلى درجاته.. درجة درجة حتى يتسلمها الحاكم في قبضته.. هكذا كان يتم ترتيب الأمور في سيرها وهكذا سارت!
تلقف ا/هيكل (ت/2016م) الفكرة ودفعها إلى أ/ لطفي الخولي (ت/1999م)، وبدأت سلسلة مقالات حولها.


بدأها ا/ لطفي الخولي، ثم التحق به أ/هيكل.. وكتب سلسلة مقالاته الشهيرة عن أزمة المثقفين، والتي جمعها بعد ذلك في كتاب بنفس العنوان.. 
أظرف شيء في الموضوع كله أن هذا الكتاب لا تضمه الأعمال الكاملة للأستاذ هيكل.. بما يشير إلى أنه كان حالة (زمنية مؤقته) وليس حالة مبدأيه ثابته.! 
***
كتاب أ/هيكل لم يتناول أمور وقضايا الثقافة، وإنما كان حالة من التبرير والتحرير للدولة، من انتقادات اتهامات المثقفين لها.. وسبب ابتعادهم عنها، وعدم اندماجهم في أجهزتها ومؤسساتها. 
***
لكن الكل اندمج بعدها!
واصبحوا مثل مثقفي الروائي الروسي تشيكوف (ت/1904م) في قصة القناع الشهيرة.. إلى الحد الذي سنشهد فيه تلك الصورة في أبرز مظاهرها وتجلياتها حين يعبر عنها فنان تشكيلي سيصبح وزيرا للثقافة.. فلا يملك إلا أن يجعلها على أبرز ما تكون وضوحا.. ما هو فنان.. وتشكيلي!
فيقول ذات يوم أنه استطاع أن يدخل المثقفين في (حظيرة الدولة)! هكذا.. بلا أي تجمل، واختيار للفظ المراد والمعنى المقصود.. الرجل فنان! فلا يعكس إلا الوجود الموجود.. كما هو.!. 
كان ممكن مثلا وكوزير سياسي يقول: إن المثقفين الآن أصبحوا رصيدا استراتيجيا للدولة.. أو فائض القوة في ميزان الدولة.. أي تعبير!
يحفظ له، هو ودولته، وحظيرة دولته، قبل المثقفين.. يحفظ بعض الكرامة، وبعض القيمة، وبعض المواءمة.. 
***
الحاصل أن قصة القناع الجميلة هذه تحكى عن أنه: ذات يوم كان هناك مجموعة من المثقفين يجلسون في قاعة للمطالعة.. يقرأون.. ويفكرون.. ويتناقشون.. كعادتهم!
وإذ فجأة يدخل عليهم في غرفتهم الجانبية رجل متنكر بقناع.. فيجلس بينهم ويشرب الخمر ويثير ضوضاء.. ويطالبه المثقفون الجالسون بالتزام الهدوء.. ولا يهتم بهم ولا يأبه لصوتهم!ّ.
فيقول له أحدهم: لن اسمح لك بذلك، ويتوعده، فيخلع الرجل المزعج صورة(القناع)حتى يعرف الجميع بأنه المليونير الكبير(بيتيجوروف) صاحب المصانع والأراضي، وبعد أن فرض سطوته، سكر حتى الثمالة، وقام للخروج.
وأسرع إليه بعضا من السادة المثقفين، وأخذوا بيد المواطن الأصيل المحترم! وهم يبتسمون بسرور، وساروا به بحذر إلى العربة، وبعد أن أوصلوه.. عاودهم المرح والاطمئنان.. وقال أحدهم وهو سعيد جدا: لقد مد لي يده عند الوداع.. إذن فليس غاضبا. 
***
الكاتب الفرنسي الكبير باسكال بونيفاس (67 سنة) الذى يعد من أهم المفكرين السياسيين في فرنسا حاليا، وله كتب عديدة عن المنطقة العربية والشؤون الفرنسية والعالمية، وهو أيضا مؤسس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس الذى تأسس سنة 1991م ويعتبر من أفضل المراكز البحثية والفكرية في فرنسا. 
د/ باسكال له كتاب مهم حول هذا الموضوع بعنوان (المثقفون الزائفون) تٌرجم الكتاب الى العربية ترجمتين إحداهما للكاتبة السورية روزا مخلوف والأخرى جزائرية للدكتور عبد الرحمن مزيان. 
***
يقول الكاتب في مقدمة الكتاب (شغلتني فكرة هذا الكتاب منذ وقت طويل، فكم من مرة دهشت وانتابني شعور بالغضب أو الضيق، عندما كنت اكتشف أثناء جدال عام أن خبيراً نطق بكذبة، وأن هذه الكذبة قد مرت مرور رسالة في البريد.. لا أتكلم هنا عن خطأ.. بل عن كذب متعمد!
ويضيف: يذهلني كل أولئك المثقفين والخبراء الذين لا يتورعون عن اللجوء إلى حجج مخادعة وعن إطلاق الأكاذيب من أجل حصد التأييد، تبدو وقاحتهم، وانعدام ذمتهم بلا حدود، وتشكل ورقة رابحة. 
وبدلاً من مقابلتهم بالاستهجان العام، يقابلون بمزيد من التهليل. 
ما هذا؟ إن الكذب الحقيقي يسير على أحسن ما يرام! 
***
ويقسم باسكال هذا النوع من المثقفين إلى نوعين: (مزيفين) و (مرتزقة). 
المزيفون: الذين يؤمنون بقضية ما.. لكنهم يعمدون إلى وسائل (غير شريفة) للدفاع عنها ونصرتها.
والمرتزقة: وهم لا يؤمنون بغير مصالحهم، ولذا يتظاهرون بالانتساب لقضية ما.. ليس من باب القناعة بها.. ولكن لارتفاع مردودها عليهم. 
ويحاول الكاتب معرفة سبب جرأة هذين الصنفين على الكذب. فيقول: بأن قول الحقيقة يتطلب تضحيات كبيرة وأيضا يتطلب مجهوداً كبيراً من البحث والتحري.
أما الكذب فيحسم الجدل لصالحهم سريعاً، ولا يحتاج إلا إلى الحبكة والجرأة.. فما أجرأهم وأغلظ وجوههم. 
***
للأسف الشديد كان لـ(المثقف العربي) على مدار تاريخه الطويل في الاحتكاك بالسلطة والدولة والمجتمع صاحب تنظيرات وتمخيخات وتبريرات لثقافة لا يؤمن بها.. فقط لأنها (بنت السلطان)! 
***
هو فقط يلهث وراء مصالحه، ومنافعه، وثراؤه… وأحقاده أيضا!.