د. عبد الخالق فاروق يكتب: أخطاء بوتين الخمسة (1-2)

ذات مصر

تعلمنا الحروب الكثير من الدروس والعبر، ومن يتصفح بالعمق اللازم تاريخ الحروب والعمليات العسكرية - سواء على المستوى الاستراتيجي، أو على مستوى التكتيكات العملياتية - يستطيع أن يتابع عن دراية مناسبة  وتقدير معقول للمواقف والقرارات المتخذة من أطرافها المتصارعة، سواء خلف مكاتب غرف العمليات على المستوى الأركان العليا، أو على مستوى سير العمل الميداني ودرجة فاعليته.

وحكايات القادة ومذكراتهم في مسارح العمليات المختلفة شرقا وغربا تعطينا بدرجة ما خبرة جزئية معقولة لطريقة تفكير هؤلاء القادة من ناحية، والمواقف العملياتية التي واجهوها والقرارات التي اتخذوها لمواجهة المواقف الطارئة أو المستجدة في مسارح العمليات تلك . 

صحيح أنه نادرا ما يقدم كثير من هؤلاء القادة أخطاءهم وقراراتهم غير الصائبة في تلك المذكرات ، بيد أن قراءة أكثر من مصدر من مصادر المعلومات في تلك المعارك تعطينا خبرة مناسبة لمكامن الضعف ومصادر القوة لهؤلاء القادة أو هذه الجيوش في هذه المعارك . 

وبرغم أن مسارح العمليات تختلف من منطقة إلى أخرى؛ ومن ثم تفرض الطبيعة الطبوغرافية للأرض والمناخ والبيئة نفسها على قرارات وطريقة إدارة القادة للحرب والعمليات الميدانية ، بيد أنه لم يعد من الصعب أن يحلل الخبراء العسكريون والمحللون الاستراتيجيون – الذين هم بالمناسبة أكثر عمقا وخبرة من القادة العسكريين – خط سير العمليات الجارية في المعركة الدائرة أمام أعينهم يوما بعد يوم ، وأداءً لهذا الطرف أو ذاك ، بحيث تكون هذه القراءة ولو أنها ليست منغمسة تماما Involved  في سير العمليات اليومية . 

ومن هنا نستطيع أن نقرأ – ولو من بعيد – مدى فاعلية قادة الأركان والعمليات على جانبي الصراع الروسي – الأطلسي على المسرح الأوكراني  طوال خمسمائة يوم الماضية من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وفقا للتوصيف الرسمي الروسي ، والتي اتخذت صفات وأبعاد الحرب بكل مشتملاتها ونتائجها الكارثية .

ودون أن نذهب إلى حد التشكيك في أخلاقية العملية العسكرية الروسية ضد النظام شبه النازي الحاكم والقابض على السلطة في أوكرانيا منذ انقلاب أبريل/نيسان  2014 ، وسحل وقتل الناس وعناصر الأمن النظامي في الشوارع ، وحرق المعتصمين في مبنى النقابات في مدينة أوديسا ورميهم من النوافذ ، ثم استمرار عمليات القتل من خلال العمليات العسكرية القاسية طوال ثماني سنوات (2014-2022 ) ضد سكان شرق البلاد  الذين أعلنوا انفصالهم عن هذه السلطة الانقلابية في كييف ، وما ترتب على ذلك من قتل حوالي أربعة عشر ألفا من السكان معظمهم من المدنيين والأطفال الأبرياء . 

والحقيقة أن قراءة خط سير العمليات العسكرية الميدانية من جهة ، وخط سير القرارات السياسية المصاحبة لها من جهة أخرى- خصوصا على الجانب الروسي- تعطينا نتائج غير إيجابية في الكثير من أدائها نجملها على النحو التالي : 

أولا: البطء الشديد في اتخاذ القرارات 

سواء كان ذلك على المستوى السياسي والاقتصادي من جانب الرئيس بوتين والقيادة الروسية، أو على مستوى العمليات العسكرية في الميدان . فإذا تأملنا بداية البطء في القرارات السياسية والاقتصادية نجد أن الرئيس الروسي - وبعد أن اتخذ القرار المتأخر لثماني سنوات بالغزو وتحرير المناطق الشرقية من القوات والكتائب النازية الأوكرانية - قد تباطأ في اتخاذ القرارات الاقتصادية الضرورية بعد فرض التحالف الأطلسي الاستعماري مئات القرارات العقابية وفرض حصار قاسٍ غير مشهود في تاريخ الصراعات الدولية ، فخلال شهرين فقط أصدر التحالف الأطلسي أكثر من خمسة آلاف قرار بالمقاطعة والحصار ، وها هو اليوم يتجاوز عدد تلك القرارات أحد عشر ألف قرار ، والحبل ما زال على الجرار . وبدلا من مسارعة الرئيس الروسي بالرد الفوري بفرض مقاطعة روسية على دول الغرب خصوصا ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرهم من الغاز الروسي - مما كان سيدمر هذه الاقتصادات الأوربية -  وجدنا الرئيس الروسى يمنح هذه الحكومات الغربية مساحات زمنية تقارب خمسة شهور وأحيانا أكثر من ذلك ، مما سمح لهذه الدول ورئيسة المفوضية الأوروبية (فون دير لاين) الألمانية الجنسية والصهيونية الهوى والجذور بالسفر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لتوقيع اتفاقيات  جديدة وضمان إمدادات عاجلة لهذه الدول  سواء من الغاز أو النفط بديلا عن الغاز والنفط الروسيين ، فخسرت بذلك القيادة الروسية عامل الزمن القاتل ، وقس على ذلك حينما قررت هذه الدول ذات التاريخ الاستعماري البشع تجميد الأصول والأموال الروسية الموجودة فى المصارف الغربية والمقدرة بأكثر من 350 مليار دولار  لم يجرؤ الرجل على اتخاذ قرارات فورية بقطع إمدادات الغاز الروسي فورا عن تلك الدول ، كما لم يتخذ قرارات مماثلة بتجميد ومصادرة الأصول الغربية في روسيا من شركات وأموال ، إنما ترك لها فسحة طويلة من الزمن للخروج الآمن من السوق الروسية. 

وهنا أتذكر المقولة الاستراتيجية العميقة التي رددها رجل الدولة الأمريكي البارز - والذي شغل مناصب هامة وحساسة فى الإدارات الأمريكية ، سواء ككبير موظفي البيت الأبيض أو كوزير للخزانة أو كوزير للخارجية - "  جيمس بيكر"  الذى قال : ( إذا كان الموقع هو رصيد الدولة .. فإن التوقيت هو فن الحكم ) . 

وبالمقابل على المسار العسكري والعملياتي، فبعد تقدم سريع وكاسح للقوات الروسية لشرق وغرب وشمال وجنوب أراضي أوكرانيا ، بدأ تراجع غريب وانكسار للقوات في أكثر من منطقة ، وبهذا ترك زمام المبادرة التكتيكية للقوات الأوكرانية - المدعومة من المرتزقة من كل حدب وصوب ومن الضباط المستشاريين من حلف الناتو - لتوجيه ضربات مؤلمة للقوات الروسية أوقعت فيها خسائر فادحة ، كان يمكن تجنبها لو حافظت القوات الروسية على قوة الاندفاع ، والوصول إلى ميناء أوديسا لقطع شريان الحياة البحري الباقي للسلطة الأوكرانية على البحر الأسود . وبدلا من ذلك اتخذت القوات الروسية - التي افتقرت بعد الأسابيع الأولى للحرب إلى روح المبادرة – خططا دفاعية بحتة، مما شجع التحالف الأطلسي على توجيه الضربات في أكثر من محور من محاور القتال، واستنزفت بالتالى الجيش الروسي وأضعفت الروح المعنوية للقوات الروسية وحلفاء روسيا في العالم أجمع. 

ثانيا: التعامل غير الحصيف مع قوات فاغنر 

منح استدعاء القيادة الروسية لقوات"  فاغنر " إلى الميدان فى جبهتي " باخموت " و " سوليدار "  روحا قتالية هجومية جديدة ، وبرغم الخسائر الكبيرة التي خسرتها هذه القوات فإنها كشفت عن حقيقتين جوهريتين : الأولى أنها تتمتع بروح قتالية هجومية  عالية ، وأن قياداتها من الضباط وقائدها العام " يفجييني بريغوجين  " يتميز بدرجة من القدرة على القيادة الميدانية الكفء ، صحيح أن حصار مدينة " باخموت " قد استغرق ثمانية أشهر حتى حررت تماما ، بيد أن تحرير مدينة " سوليدار " قبلها لم يستغرق كل هذا الوقت ، مما منح العسكرية الروسية شيئا من رد الاعتبار . 

وبرغم تكرار قائد فرقة " فاغنر "  يفجييني بريغوجين  الشكوى العلنية  منذ شهر مارس 2023 من سوء الإدارة العسكرية فى القيادة العليا للجيش الروسي خصوصا وزير الدفاع "  شويجيو " ورئيس الأركان " سيمويولوف " ، وتعرض قواته لخسائر كبيرة بسبب التقصير اللوجيستي من الذخائر وغيرها من الإمدادات ، وهو ما اضطره للاتهام العلني لهذين الرجلين بالتآمر على قواته ، حتى بلغ الأمر بعد نجاح قوات " فاغنر " في التحرير الكامل لمدينة " باخموت " في يونيه/حزيران 2023  إلى إعلان انسحاب قواته من المدينة بعد تسليمها إلى القوات النظامية الروسية ، وانتهى الأمر بحالة من التمرد أو العصيان في الرابع والعشرين من يونيه/حزيران ، وإعلان الرجل التوجه بقواته إلى موسكو والمطالبة بمحاكمة وزير الدفاع ورئيس أركانه . 

كل هذا كان يجري ولم يتدخل الرئيس " بوتين " برغم ما أصاب سمعة الجيش الروسي كله من مهانة ، خصوصا وأن أداء القوات النظامية طوال الشهور الاثني عشر الأخيرة ( مايو/أيار 2022- مايو/أيار 2023 ) كان بطيئا ودفاعيا ، مماترك زمام المبادرة التكتيكية والميدانية للقوات الأوكرانية المدعومة تماما من حلف الناتو . 

لم يستدع الرئيس الروسي بوصفه القائد الأعلى للجيش الروسي قائد قوات فاغنر مبكرا للتعرف منه على مواطن الخلل ومصدر الشكوى حتى يوقف حالة التشهير التي اندفعت في مواسير الإعلام الأطلسية المعادية  للجيش الروسي والقيادات العسكرية الروسية  والإدارة السياسية للحرب . 

لقد غلبت طبيعة العلاقة الخاصة بين الرئيس الروسي " بوتين " ووزير دفاعه " شويجيو " على مصلحة وأداء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا . 

 

ثالثا : التوقف عن تقييم الأداء العسكري وكفاءة وزير الدفاع ورئيس أركانه 

تذكرنا العلاقة  الخاصة بين الرئيس الروسي " فلاديمير بوتين " ووزير الدفاع " شويجيو " بتلك الصداقة العميقة التي ربطت الرئيس جمال عبد الناصر بالمشير عبد الحكيم عامر ، والتى أدت في النهاية إلى هزيمة قاسية للجيش المصري والدولة المصرية في يونيه/حزيران 1967 ، والتي مازلنا حتى اليوم نتجرع من كأسها المرة . 

فبرغم عدم كفاءة المشير عبد الحكيم عامر   فإنه ترقى من رتبة الرائد إلى رتبة اللواء مرة واحدة لأسباب سياسية  دون أن يصاحب هذا الترقي تنمية في خبراته العسكرية العلمية والميدانية ، وحالت العلاقة الخاصة والوطيدة بين الرجلين دون التقييم الدوري لأداء وكفاءة المشير عبد الحكيم عامر الذي لازمه الفشل في كثير من الأزمات الكبرى التي مرت بها مصر ( الأداء العسكري الباهت والضعيف اثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، كارثة انفصال سوريا عن مصر في سبتمبر/أيلول 1961 ، النكسة الكبرى لمصر من جراء العدوان الإسرائيلي في الخامس من  يونيو /حزيران 1967 ) . 

ويكشف التحليل الدقيق لخط سير العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا طوال خمسمائة يوم من الحرب  غلبة الطابع البيروقراطي والمكتبي على أداء القيادات العليا فى قيادة العمليات ، وخصوصا وزير الدفاع ورئيس أركانه 

وتكشف البيانات العسكرية الرسمية الروسية الصادرة عن مركز العمليات ووزارة الدفاع مدى الطابع البيروقراطي والعقل المكتبي السائد في تلك الوزارة ، حيث نرى البيانات المتتالية يوميا تهتم بأعداد القتلى من الجنود والمرتزقة الأوكرانيين ، وعدد المعدات المدمرة ، بحيث يحصي المحلل المدقق لحجم الخسائر المعلنة طوال خمسمائة يوم من الحرب أن ما يقارب نصف مليون جندي أوكراني أو أكثر قد قتل ، وأن آلاف الدبابات والمدرعات والآليات الحربية الأوكرانية قد جرى تدميرها ، بما يكاد يذكرنا بالبيانات العسكرية المصرية في الساعات الأولى للعدوان الإسرائيلى على مصر في الخامس من يونيه/حزيران 1967  حينما كانت البيانات الرسمية تذيع إسقاط عشرات ومئات الطائرات الإسرائيلية المهاجمة ، ثم تبين أن هذه البيانات المصرية لم تكن سوى أوهام في عقل القادة المحيطين بالمشير عبد الحكيم عامر . 

والأهم في الحروب هو قدرة أحد الأطراف في كسر إرداة الخصم على الاستمرار في الحرب ، وهو ما بدا أنه لم يتحقق فى الحرب الروسية – الأطلسية على الأرض الأوكرانية  بسبب البطء الشديد في قرارات الحرب الروسية في الميدان ، على عكس الأداء العسكري الروسي فى الحرب ضد نظام الحكم في جورجيا عام 2008 بقيادة الرئيس المشبوه " ساكشفيللي " ، حيث لم تستغرق العمليات سوى أقل من شهر واحد . 

 

رابعا : الثقة المتزايدة والتسليم المبالغ فيه في القيادة التركية والسيد رجب طيب أردوغان 

لاشك أن تقدير الموقف الجيو –سياسي والجيو- استراتيجي الذي أجرته القيادة الروسية بعد قرارات الحصار والمقاطعة الخانقة التي اتخذتها دول التحالف الأطلسي الثلاثون ، ومحاولة مد حالة الحصار إلى دول أخرى مثل الهند أو الصين أو غيرهما قد دفعت القيادة الروسية للبحث عن أصدقاء أو متعاونين يستطيعون خلق ثغرات في جدار الحصار الأوربي الخانق ، وكانت تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان هي المنفذ والملاذ . 

بيد أن دراسة المسار والسلوك السياسي للرئيس التركي منذ ظهوره على المسرح السياسى التركي والدولي يؤكد حقيقة واحدة وهي أن هذا الرجل يتسم بطابع انتهازي – أو بتعبير آخر "برجماتي" – شديد الأنانية لمصالحه الشخصية أولا ، ولمصالح حزبه ثانيا ، ولمصلحة بلده تركيا ثالثا . 

والرجل لم يترك أزمة إقليمية أو دولية دون أن يتدخل فيها - سواء أكان مدعوا أم محشورا فيها – ويخرج منها محققا مكسبا سياسيا أو اقتصاديا أو استراتيجيا بشكل أو بآخر ، هكذا كان سلوكه في سوريا ، ومن قبلها في العراق ، وفي أذربيجان ، أو الأزمة الكبرى الروسية الأطلسية في أوكرانيا . وهو هنا خرج بعدة مكاسب على حساب جميع الأطراف ، حيث يرتب لتحول تركيا لأكبر محطة للغاز الطبيعي في العالم ، سواء القادم من روسيا إلى أوروبا في المستقبل  أو القادم من وسط آسيا إلى أوروبا ، أو القادم من الكيان الإسرائيلي ومن مصر وشرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا . 

وبالمقابل لم يعطِ الرجل الكثير للرئيس الروسي " بوتين " سوى وعود أخلفها في الكثير من الحالات ، تماما كما حدث في سوريا ، وكما حدث في الأزمة الأرمينية الأذربيجانية ، أو الآن في الأزمة الروسية الأطلسية ، فهو على سبيل المثال لم يعرقل انضمام فنلندا إلى حلف الناتو المعادي لروسيا ، ومن المؤكد أن لن يعرقل كثيرا انضمام السويد إلى هذا التحالف الأطلسي العدواني بما يستكمل حلقة الحصار الجيو سياسي على روسيا ، خاصة إذا حصل على بعض مطالبه المتمثلة في عودة مفاوضات انضمامه إلى منظومة الاتحاد الأوروبي المبعد عنها قصريا ، أو على الأقل الحصول على صفقة طائرات ال F.16 أو العودة إلى برنامج إنتاج الطائرة الشبح F.35  . 

ولعل ما جرى من تصريحاته الغريبة أثناء زيارة الرئيس الأوكراني " زيلنسكى " إلى أنقرة في العاشر من يوليو الحالي ، وإعلانه ضرورة انضمام أوكرانيا لحلف الناتو ، ورفضه ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ، وما زاد عليها تسليمه مجرمي الحرب من قادة كتيبة أزوف الذين كانوا أسرى لدى روسيا وسلمتهم إلى تركيا في أطار صفقة واتفاق على أن يظلوا في تركيا بعيدا عن الحرب ، فقام الرئيس التركى بخرق الاتفاق دون أن يرمش له جفن وسلمهم للرئيس الأوكراني ليستصحبهم الأخير معه في الطائرة إلى أوكرانيا من جديد ..!! 

إذن. نحن إزاء رئيس تركي لا يمكن الوثوق به لمدى بعيد ، وربما هذه ستكون أحد أخطاء الرئيس الروسي الكبرى في هذه الحرب . 

وللحديث بقية .