مريم الخلفاوي تكتب: القيم ضالة الإنسان

ذات مصر

يمارس الناس في مختلف شؤون حياتهم القيم تفكيرا وسلوكا بوعي أو بغير وعي، فلكل مجتمع طرقه وأساليبه وعاداته الخاصة المتفق عليها في المعاملات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والإنسانية والجمالية، ويثير الحديث عن القيم عدة مشاكل جديدة وقديمة قدم السلوك الإنساني فهي تحدث أثارا يشبه السحر وهي ضالة كل إنسان تلازم تصوراته الفكرية وأفعاله ولا تنفصل عن وجوده، بل إنها تجسد كل وجود إنساني جديد فمنها القيم الكونية والقيم المحلية والقيم الصريحة والقيم الضمنية والقيم الدائمة والقيم العابرة، ويصنع كل إنسان قيمه باختيار وباستبصار منه سواء كانت تلك القيم ذاتية أو موضوعية شريطة أن تتوافق ومنفعته الحياتية، وتتجلى مظاهر القيم داخل المجتمع الذي يكشف وجودها الفعلي ولن يكون لوجود الإنسان معنى إلا بالبحث عن ضالته فيها التي تكفل له مصيره القيمي ومصير العالم بأسره.

يصعب تحديد جوهر القيم نظرا لانطوائه على عمق معرفي وثقافي وإيديولوجي فكل باحث في القيم إلا وينطلق من ثقافته الفردية وثقافة مجتمعه ومعتقداته وقناعاته، وتتعدد أنواع القيم وأشكالها بتعدد المقومات المعنوية لحياة الإنسان التي بها تصلح حياته أو تفسد، وقد خولت القيم للإنسان الانتقال من عيش أفعاله وسلوكياته إلى الوعي بهذه الأفعال والسلوكيات، ومن القيم ما لا يقبل المقارنة والمقايسة كالقيم المتصادمة التي لا يمكن أن يجتمع مدلول إحداها مع الأخرى في العقل، ومنها تلك التي تقوم على مبدأ التعارض بين الدين والعقل التي ينتج عنها التسيُّب العقلي، ومنها القيم التي تقوم على مبدأ التفاوت بين الثقافة والأخلاق، ومن هذا المنظور تجسد القيم معتقدات وتصورات الإنسان المعرفية والوجدانية والسلوكية الثابتة التي وقع عليها اختياره بحرية منه وذلك بعد تفكر وتأمل جازم، فأتاحت له تشكيل منظومة المعايير التي يتوسل بها للحكم على الأشياء. 

تكشف القيم عدة جوانب من حياة الإنسان بفضل خواصها التي تنطوي عليها فهي؛ تتصل بالتجربة الشخصية للإنسان وبفعل التقدير، ويمكن أن تبدو القيم مثالية لأنها ليست أشياء وإنما هي التي تسترعي الاهتمام بالأشياء، وتناظر القيم مختلف مجالات الحياة، بحيث لا تنفك عن التجارب الإنسانية كيفما كان نوعها، وللقيم قطبان إما قيم موجبة أو قيم سالبة، وليست كل القيم مطلقة وتحمل على الاندفاع والابتعاد عن اللامبالاة وعدم الإحساس بها، كما تنطوي القيم على صفات الأشياء بالرغم من كونها ليست أشياء موجودة في ذاتها وبذاتها  كالنسبية والمطلقية والذاتية والموضوعية والثبات والزوال وغيرها من صفات الأشياء، فالقيم مجرد تفضيلات وميول ولا أساس لوجودها في غياب مبتدعها الذي هو الإنسان الذي تصعب معرفته ومن ثمة يصعب معرفة عالم القيم.

إن الفاعلية القيمية واقع يعيشه الإنسان في مختلف مجلات الحياة وهي تطرح عدة قضايا إشكالية من قبيل التساؤل عن طبيعة القيم وأصنافها وواقع ممارستها ونشأتها وأحكامها وصفاتها وكيفيات بلوغها وآليات التطلع إلى قيمة القيم أو القيمة العليا ونظام معاني نسبيتها ومطلقيتها وغيرها من الإشكالات، ويجسد الإنسان بؤرة انبثاق القيم في العالم ولكي تنشأ وتتطور لابد لها من شرط أول وهام هو رغبات الإنسان ومشاعره الإنسانية ثم تأتي الدوافع والاهتمامات والميول المفترضة مسبقا، ويسعى الإنسان باحثا عن ضالته في إقامة علاقات اقتصادية تسمح له بامتلاك قيم مادية تؤمن له العيش الكريم وتحفظ له كرامة الوجود وماء الوجه وببلوغه لهذه القيم الاقتصادية يتمكن من استشراف باقي قيم الوجود، فكل إنسان منخرط في العالم إلا ويتطلع إلى القيم الاقتصادية التي تجعله يحس باللذة والألم لأنها أساس القيم العليا ولأن باقي القيم تترتب انطلاقا من وجودها، وتنطلق القيم الاقتصادية من وعي الإنسان الفكري بقيم العمل والغذاء والملبس والمسكن والسفر... لأنه في ظل غياب هذه القيم سيعيش عيشة ضنكا، وتترتب بعد القيم الاقتصادية قيم الإنسان المنخرط في العالم أي القيم العقلية والقيم الجمالية، فبعد بلوغ الإنسان للقيم الاقتصادية والتطلع إلى أخرى ينطلق باحثا عن ضالته في التقدير الذاتي متبنيا مجموعة من الصور أو المثل العليا التي تخول له بلوغ عدد من القيم التي تصنفه في خانة التقدير والتقييم والاعتبار والتثمين، ثم يلتفت نحو قيم الجمال باحثا عن ضالته فيها وهي قيم إيجابية نسبية باطنية وكونية تحدث المتعة واللذة وتشمل الصورة وتركيب الخلق والأخلاق والعاطفة والأفعال لأنها تبعث في نفسه السرور والرضا، فالنفس بطبعها تميل إلى الجمال بذاته سواء كان داخليا أو خارجيا وتنفر من القبح، ويختلف التأثير الذي تحدثه هذه القيم الجمالية من شخص إلى آخر باعتبارها صفات عينية وحالات في الأشياء الجميلة تلازمها يدركها العقل من خلال ما تنطوي عليه من خصائص تثير الإعجاب وتبعث على الاندهاش، فقيم الجمال والقبح تشبه قيم الخير والشر لما تحدثانه من انفعالات وتحريك للمشاعر والعواطف وتعبير عن الذوق الجمالي، ثم ينتقل الإنسان باحثا عن ضالته في تحقيق وجود اجتماعي ومكانة اعتبارية يتمثل فيها القيم الاجتماعية المتفق عليها داخل المجتمع ومؤسساته حتى يحظى بالقبول الاجتماعي ويثري وجوده وشعوره الاجتماعي ويمنح نفسه قيمة وقدرا، فيمضي الإنسان ساعيًا للظفر بقيم أخرى جديدة تتجاوز القيم الاقتصادية والعقلية والجمالية والاجتماعية فيبحث عن ضالته في تقويم أفعاله وتجويد سلوكياته تجاه نفسه وتجاه غيره فيتمثل القيم الأخلاقية التي تجعله يستشرف آفاق الوجود الكامل الذي يفتح له جسور العبور إلى السعادة والراحة النفسية والجسدية والطمأنينة فيمتثل لقيم الالتزام والواجب والحق والعدل والفضيلة والخير ويميز نية الفاعل عن نية الفعل.

إن هذه الانتقالات القيمية تلازم حياة الإنسان فكلما بلغ منها ما ترضي نفسه نما وزاد شأنه وأحس بالرضا والقبول، إنها قيم الإنسان وقيم الحياة تلازم الوجود منها الثابت ومنها المتحرك ومنها المقبول ومنها المرفوض، فهي ظاهرة دينامية ومتطورة يسعى الإنسان لبلوغها وكلما أدرك درجة من سلمها تتطلع إلى الدرجة الموالية إلى أن يصل إلى القيمة العليا التي تجعله يشعر بإشباع رغبته وتحقيق المنفعة وتحصين المصلحة، وبعد بلوغ الدرجة العليا من القيم يعود إحساس الرغبة الجامح في قيم الحياة ليخالج شعور الإنسان وعقله فيتطلع من جديد إلى قيم أخرى جديدة ويستمر في رحلة البحث عن ضالته لعله يدرك بعضا من القيم أو كلها إنه الإنسان وإنها الرغبة الجامحة التي تطارده وتجعله دائم البحث.