هشام الحمامي يكتب: الحدث الذي جاء من الزمان كله.. ليغير المكان كله!

ذات مصر

يمثل الصراع القائم الآن في (غزة) أهم وأخطر مراحل الصراع بين الشرق والغرب، بعد الهجمة الاستعمارية الأخيرة له على (عالم الإسلام) في الفترة من 1840 إلى 1945م، مائة سنة تقريبا، والتي انتهت بوضع الشرق الإسلامي في القبضة الحديدية لـ(الدولة القطرية)، التي جاءت بتنسيق وترتيب ودعم غربي كامل، صعودا بها على كل سلالم الدناءة والمؤامرة.

وبغض النظر عن الحديث حول تفاصيل كل ذلك، إلا أن النتائج النهائية التي تكونت في أوطاننا على مستوى الاستراتيجي الشامل (الإنسان والفكرة والحضارة) تقر وتشهد بذلك، فقد ضاع تقريبا كل شيء!

***

وضع هذا الثلاثي أمام عينك (الإنسان والفكرة والحضارة)، وسواء تذكرت في تذكرك هذا: مالك بن نبي (الإسلامي) أو تذكرت جمال حمدان (العلماني)، أو تذكرت إدوارد سعيد (المسيحي) أو تذكرت عبد الوهاب المسيري (الوسطي)، ستجد أنهم بذلوا جهدهم كله، وأفنوا عمرهم كله، في تنبيه أمتهم وشعوبهم وقادتهم بحجم الخطر الذي يحاصر المكان كله في الوقت كله.

***

من لؤم اللئام في الغرب ولدينا أيضا، أنهم عملوا بقوة على (تقطيع وتجزيئ) التاريخ، تاريخنا، وأصبح على كل جيل يأتي أن يتأمل القطعة التي تم اقتطاعها له، يمسكها يده يقلبها ظهرا لبطن ويمضغها ويفعصها ويلغوا بها لغوا لغيغا.

ثم يموت ليفسح المكان والزمان لمن يأتي بعده، والذي سيتسلم قطعة جديده من (صينية التاريخ) والتي سيحرم من النظر فيها كلها مرة واحدة بكل حيل الأحاييل وخدع الأخاديع، ثم يأخذ دوره في تأملها والنظر فيها واللغو عليها وعلينا، وهكذا دواليك. 

***

بعضهم ستأخذه أوهامه بعيدا مثل ذاك (التنويري) الفخم الذي قال لنفسه ذات ليلة (ليه لأ؟)، فقرر أن يكتب كتابا عن (نقد العقل العربي) لكن حظه السعيد جعله يهدى الكتاب إلى الراحل أنيس منصور الذي لم تتحمل أعصابه هذا اللغو فقال في تعليقه على الكتاب ما قال.

***

وبالمناسبة كل أصدقائنا التنويرين والتنويريات الأحياء منهم والأموات، كلهم تقريبا لديهم أوهام عن (ذاتهم العقلية)، تمنحهم قدرة مدهشة على نقد الجاحظ والشافعي وجوته وتولستوي وهوجو في (قعدة واحدة) ومن أول نَفَس، بل وإظهار كل نقاط الضعف المهولة فيما تركوه لنا وللإنسانية.

***

لماذا كانت السنة 1840م هي بداية تلك المائة سنة المجزأة؟ تجزيئا لئيما؟

سيقول لنا الأستاذ هيكل رحمه الله: أنه كان فيها نهاية المشروع الكبير الذي بدأه محمد على باشا لإحياء مجد الإمبراطورية العثمانية من داخلها،

لكنه لم يزد على ذلك في قوله لضرورات طموحه المهني أولا، وثانيا لأن هذه الفترة (الستينيات) كانت فيها الأوهام في أعلى درجات السخونة، فكان لازم كله يسخن، وبقبضة من هواء وخيبة من رجاء سيظل يسخن ويسخن، 

***

لكننا سنعرف أن (بالمرستون) وزير خارجية إنجلترا 1835م قال لقادة روسيا والنمسا وفرنسا قبلها: يجب علينا أن نوقف (نابليون المسلم) عند حده. 

كان يقصد الباشا الذي كان جيشه في الشام والأناضول، وعلى أبواب الآستانة للترتيب مع النخبة العثمانية لعزل السلطان محمود المخدوع من روسيا وإنجلترا، وضخ الدماء الجديدة في (الخلافة الإسلامية).

حتى لا يحاكمه تاريخ العالم الإسلامي بتركها للتحلل والانهيار الذاتي كما كانت تنتظر أوروبا.

***

تعبير (نابليون المسلم) ذكره الكاتب الفرنسي جيلبرت سينويه في كتابه الهام (الفرعون الأخير/ محمد على)، ووضع سطرا بالغ الأهمية في مقدمة الكتاب قاله محمد على باشا: (لن أتحمل أبدا بأن تصير مصر إنجليزية وتركيا روسية).

***

لكن د/ خالد فهمي المؤرخ والأكاديمي الذي ينتمي إلى مدرسة التاريخ المجزئ، له أراء مختلفة عن مشروع محمد على باشا، وله أيضا أراء مثيرة في هزيمة 1967م وسنكتشف ببساطة متناهيه أنه متأثر بالمدرسة الغربية في النظر للشرق المسلم، وستكون عدسة الرائع (إدوارد سعيد) كاشفة للغاية في كتابه الأروع (الثقافة والإمبريالية).

***

انتهت تجربة (المغامر العبقري) بالإخفاق، كما وصفه الشاعر الفرنسي الكبير(لامارتين) وتحققت أحد مخاوفه.

وبعد 42 سنة ستصبح (مصر إنجليزية)، وبعد 35 سنة سيدخل اللورد اللنبي القدس في يونيو 1917م، وبعد 5 شهور فقط سيصدر(وعد)من أحد أشد كارهي اليهود في الدنيا كلها (أرثر بلفور)، وبعد 30 سنة سيعلن الغرب عن إنشائه لدولة تحمى مصالحه واستراتيجياته في الشرق المسلم في قلب القلوب، (فلسطين)، وأسموها (إسرائيل) للديباجة الدينية ودغدغة لمشاعر العالم بعد محرقتهم في أوروبا، 19 سنة فقط وستتمدد تلك الدولة بسهولة سهيلة للغاية، بطول وعرض جغرافيا الشرق، وكرامته، وكرامة قادته ومفكريه ومثقفيه وساسته وإصلاحييه الذين اختلطت عليهم الطرق والدروب.

***

سنرى بعدها (شارون) وهو يضع (البيريه) في عروة (الكتافة) ويسير مشطوحا يديه للأمام والخلف في شوارع غزة وعند الدفرسوار.

وبعدها سنرى (إيهود باراك) يظهر بنفس المظهر ونفس المشية في شوارع بيروت (1982م)، وسيسخر التاريخ منهما بعد قليل، إذ سنرى بعدها (شابا) من غزة يضع ساقا على ساق، ويشرب شايا ويصطاد دبابة ميركافا، بصاروخه، ثم يعود ليرتشف رشفة ثانية ريثما يجد ميركافا أخرى. 

***

ليس هذا فقط بل وسنسمع نجل شارون يقول عن (مجاهدي القسام)، إنهم لا يخافوننا فقط، إنهم يحتقروننا!

لكن بعد عشر سنوات أخرى سيمشى الجميع أجمعين (عربا وعجما) إلى مدريد(1992م)، لماذا؟ لأنهم كانوا يتحسبون لمجيء هذا (الشاب)، الذي يضع ساقا على ساق، ويدمر رمز قوتهم (الميركافا) عربة الرب.

لكنه جاء!

***

كانت المعلومات المخابراتية من كل الدنيا تقول إن أطفال الحجارة (انتفاضة 1987م) بدأوا في إنشاء (تنظيم).

وسمعهم البعض وهم يرددون مفردات وتعبيرات تتصل بالقرآن والجهاد حتى أن بعضهم يقول (اللهم أحيني على معرفتك وأمتنى على الشهادة في سبيلك)، يحيا على معرفة الله؟ ويموت في سبيل الله؟ 

***

ذاك صوت دفناه في أعماق الأعماق من سنين السنين، ما الذي كان يفعله الرئيس الأمريكي روزفلت على الباخرة كوينسي سنة 1945م في الشرق الأوسط (لقاء البحيرات المرة) بعد أن تسلم المفتاح من بريطانيا؟

لقد عمل طويلا هو ورجاله المخابراتيين، (عشر سنوات تقريبا) لمنع كل ذلك، وغلق كل أبواب ذلك، قطعا للعلاقة بين الأمة ومصادر قوتها، ماذا كانت تفعله الدولة القطرية وقبضتها الحديدية طوال هذه السنين؟ آه، ويلي منك، وويلك مني!

***

لكن أحدهم، كان هناك ذات يوم، عندهم، مكث لديهم ومعهم وبينهم، 23 سنة في السجن، شاب عشريني درس اللغة العربية وآدابها وله حضور روحي بالغ التأثير. وبمشيئة الكبير المتعال رب العالمين، وبتدبيره، خرج من السجن، 

***

وبعد 12 عامًا من خروجه، قرر أن يواجه هذا الغرب العتيد، في أحد أهم وأخطر حصونه ومواقعه (دولة إسرائيل)، وفي الحرب نموت وبلا حرب نموت، فليكن إذن موتنا، موت المقربين، الذين ليس بينهم وبين الله إلا روح وريحان.