إبداعات ذات مصر

حبابة.. قصة قصيرة

ذات مصر

كانت تستمع باهتمام إلى حلقات مسلسل "عيلة مرزوق أفندي". تجلس أسفل الراديو الموضوع على الرف العالي بعيدا عن ايدي العيال، تشارك في حوار الممثلين:

  • قلت لك خللي بالك منه، كان بيضحك عليك!

أسألها بخبث:

  • بتكلمي مين يا ماما نادية؟
  • خليك في حالك!
    كنا نناديها بماما نادية، كما تعودنا.

كان جزء من لعبنا اليومي أن نمر عليها، تعطينا قطعة كيك أو أصبع موز، أو ربع جنيه: 

  • روح اشتري لك حاجة حلوة.

تنتهي بسرعة من تنظيف الشقة الصغيرة، الصالون وغرفة النوم وغرفة نوم الأطفال الخالية.

تذهب بعدها إلى أحد مشاويرها اليومية:

  • النهارده عيد جواز سوزان بنت عمي محي!

أو:

  • محمد ابن مها نجح، رايحة ابارك لها.
  • مها مين؟
  • بنت خالي سعيد!

هناك دائما مناسبة ما تقوم بها، قريب بعافية، عيد ميلاد، ذكرى زواج، نجاح في الامتحان او خناقة زوجية تتطلب تدخلها، اوقات عروسة جديدة "محتاسة" في شغل البيت، حامل وتعبانة.

 تحمل هديتها الجاهزة دوما أو لوازم المناسبة، وتذهب.

كان الجميع يسمونها ماما نادية، الأقارب والجيران في العمارة وفي الشارع الضيق، تحفظ جميع تواريخ المناسبات، في الأعياد كانت الشقة الصغيرة تزدحم بنا، بنات وصبيان ننتظر العيدية وامهاتنا، اللاتي جئن ليعيدوا على ماما نادية، خاصة عيد الأم.

تعود إلى المنزل دوما من مشاويرها الساعة الواحدة ظهرا لتعد الغذاء لزوجها "سي" فتحي، الذي يصل من الديوان الساعة ثلاثة ونصف تماما. 

الأستاذ فتحي رجل يحب الهدوء والنظام، يعود كل يوم في موعده المحدد، يتناول الغذاء الذي طلبه قبل أن ينزل:

  • النهارده اعملينا البطة وملوخية ورقاق، بس بلاش تنشفيه زي المرة اللي فاتت.
  • حاضر.

ينام ساعتين بعد الغذاء ثم يذهب إلى المقهى في باب اللوق حيث يلتقي وأصدقائه. 

حين مرت سنوات بعد زواجهما ولم يأت الأطفال، ذهب بها إلى الطبيب. بعد أن أجرت التحاليل، ولم يكن هناك أي سبب يمنعها من أن تكون أما.

 ألتفت إليه الطبيب وطلب منه أن يجري الفحوصات.

قال وهو يراجع التحاليل التي عاد بها:

  • لازم تتعالج!

حاول الأستاذ فتحي كثيرا، ذهب إلـي أكثر من طبيب، لكن النتيجة كانت واحدة، لا أمل.

 حين أحضر زميله في العمل ابنه البكر ذو الأربعة عشر عاما إلى المكتب، أحس بضيق شديد لم يستطع إخفائه.

قال له أحد زملائه:

  • ربنا يطعمك زيه، صلي على النبي.

عاد الى المنزل مهموما. أخبرها أن زميله أحضر أبنه الى المكتب. 

وهما في الفراش قالت وهو جالس بجوارها صامتا يدخن:

  • ما تضايقش نفسك، هما اللي جابوا أولاد نابهم ايه غير دوشتهم؟ وبعدين انت ما بتحبش الدوشة!

رد بعصبية: 

  • مين قال لك أنى متضايق؟ خليك في حالك.

بكت وخرجت من الغرفة.

 قال معتذرا:

  • معلهش، مشاكل في الشغل.

في اليوم التالي احضر لها وهو عائد من الديوان فستان من أحد محلات باب اللوق، فرحت به.

 كانت قد نسيت غضبه غير المفهوم. قررت بينها وبين نفسها أن الله كتب لها تلك الحياة بدون أطفال، بنت صغيرة تلبسها الفساتين وتسرح لها شعرها!

 لكنها كانت تحبه وتحب عالمها الذي تعيشه.

 

في ذكرى ميلاده الأربعين، وكان قد مر على زواجه خمسة عشر عاما، دعته أخته أنيسة إلى الغذاء. 

قالت وهما جالسان في شرفتها المطلة على مقياس الروضة وأشجار أم الشعور الولادة:

  • مش يمكن لو غيرت ربنا يطعمك؟

وهو مغادر عند الباب، قالت:

  • جرب حظك، ده حقك وما بقاش في العمر كتير.

أضافت مبتسمة:

  • عندي عروسة، بنت بنوت عندها تلاتة وتلاتين سنة، فاتها القطر، اخوتها سبعة، أكيد ولادة زي أمها.

اخذ يفكر. ينظر إلى زوجته وهي تتحرك في البيت فيشعر بخجل ولا يجرؤ أن يفاتحها، ثم يتذكر مشهد أبن زميله، رجل من صلبه! شعرت بنظراته وقلقه وصمته الغريب.

مر أسبوع، قرر أن يحسم أمره ويصارحها.

 في مساء ذلك اليوم، لم يغادر إلى المقهى في موعده اليومي. كانت تنتظر خروجه لتذهب إلى عيد ميلاد أبن أختها التي تصغرها مباشرة، أكثر أبناء أخوتها قربا إلى قلبها، ربما لأنه كان أول طفل في عائلتها.

كانت الهدية المغطاة بورق لامع ملون موضوعة فوق منضدة بجوار المدخل.

ناداها:

  • نادية؟!

ردت بقلق:

  • نعم؟!
  • عاوز اكلمك في موضوع.

جلست على أقرب مقعد لها.

قال بصوت جعله هادئا:

  • أنا عاوز أجرب حظي، يمكن ربنا مش كاتب لينا الخلفة، أجرب حظي مع حد تاني، يمكن ربنا يطعمني.

للحظات لم تفهم! حين فهمت نظرت إليه غير مصدقة، سألت بصوت مرتعش:

  • في حد أنت عارفه؟
  • أيوه، معرفة أنيسة.

 أحنت رأسها ودموعها تتساقط.

قام متثاقلا وخرج. ذهب إلى بيت أخته، طلب أن يرى العروس.

حين عاد إلى المنزل، لم يجدها ولم يجد ملابسها، وجد هدية عيد الميلاد مغلفة في مكانها. 

اتصل بوالدها فعلم أنها هناك، لم تحادثه.

سريعا تم الزواج، وانتظر الجميع ليعرف: هل سينجب من زوجته الجديدة؟ 

أما عن السيدة الطيبة، الأم الحنون لكل أطفال أقاربها ومعارفها وجيرانها، ضيفة المناسبات التي لا تكل، فقد ظلت في بيت أبيها، لم تغادره، لم يعد يراها أحد حتى نسوها.