هشام الحمامي يكتب: دولة الناس.. (أوقاف الباشا) التاريخ واللاتاريخ

ذات مصر

القوة لا تغني عن الحق، والقانون لا يغني عن التقوى، والدولة لا تغني عن الناس. والناس بالتقوى ولا تقوى بلا إخبات للخالق، وأخلاق للمخلوق. ومن زاد عنك في الأخلاق زاد عنك في التقوى، ومن نقص عنك في الأخلاق نقص عنك في التقوى (مع تصريف بسيط لابن القيم). ومكان التقوى القلب (لا عيون الناس) ومرادها الله (لا المصالح). والآية الكريمة في سورة الحج: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) عنوان كبير جامع مانع. جامع للمادي (اللحوم) والغيبي (التقوى)، مانع لانحراف الضمير، ذاك القبس الهادي من نور الله. إذ لا يكون للناس هدى من غيره. كما يقول لنا د/ محمد كامل حسين (ت/1977م) رحمه الله، في رواية (قرية ظالمة). 

الحديث عن القوة والقانون سيحيلنا فورا للدولة والحاكم. والحديث عن الحق والتقوى سيحيلنا فورا الى الدين والناس. والحد الفاصل بين قوة الحق وسلطة القوة سيحيلنا إلى العز بن عبد السلام (ت/1262م) سلطان العلماء الذي لم يرض بمصب القضاء في مصر إلا إذا اقر له الحاكم (الملك الصالح نجم الدين أيوب ت/1249م) بهذه المعادلة: أن تكون (قوة الحق. لا سلطة القوة) هي الحد الفاصل بين الحاكم والمحكوم.

***

لكن ما علاقة كل ذلك بموضوعنا؟ 

كل روابط العلاقات!! وأولها صاحب كتاب (جميع أوقاف الباشا) الدكتور إبراهيم البيومي غانم (64 عاما). ذاك التقى النقي الخفي الذي يكاد يختفي في ملابسه. رغبة منه في البعد عن الشهرة والنجومية (رغم أنه من جيل الستينيات!!). 

عالم ومفكر وسياسي! بالمعنى العلمي والتعليمي فهو خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية دفعة 1983م ويعمل أستاذا للعلوم السياسية ومستشارا بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.

إشراقة ربيعية من إشراقات العلماء يلقاك بها بوجهه الريفي الصبوح السمح. لن تندهش إذا علمت انه كان أقرب تلاميذ المستشار طارق البشرى إليه. ويكاد يكون سمته الذي يطل علينا به. الأدب والهدوء والسكينة والوقار. وحول كل ذلك طبقات العلم طبقا فوق طبق. 

***

حصل على الدكتوراه عام 1997م في موضوع قاتل. (الأوقاف والسياسة) الذي صدر في كتاب عن دار الشروق ودار مدارات، وهو من أهم الكتب التي تنظر في العلاقة بين الدولة والمجتمع من زاوية الرؤية ألحق بالنظر وهي كيف يكون المجتمع ندا قويا في هذه العلاقة؟ لا طرفا مستضعفا مستفردا مفرفطا منثورا في فضاءات الأرض. مجرد رقم في تعداد، لا قوة منظمة منبسطة في وجه من يريد التمدد على حقه وكرامته.  دائم البحث في حيرة لا تنقطع عما لا يجد وما لن يجد!

وهكذا كان عطاء الدكتور إبراهيم غانم لنا ولأمته. أنت أمام نموذج للإنسان في شرف سعيه في الحياة باحثا عن الأفضل لأمته وأهله. ومن ينثر العطر يتعطر. فعطرنا وتعطر. والأهم هو أنه حفر بأصابع الصبر والجهد الدؤوب على حائط تاريخه وتاريخنا صفحات لا تمحى لمعنى من أهم معاني وجودنا. وهو قوة المجتمع والتأسيس العميق لدولة الناس. 

الحاصل أنه تتبع في دراساته وبحوثه العلاقة بين المجتمع والدولة في مصر خلال القرنين الماضيين من زاوية الوقف الخيري، باعتباره أهم أداة استخدامها المجتمع الإسلامي لتلبية حاجاته وبناء مجال مشترك بينه وبين السلطة الحاكمة، ترفع عنها أعباءه.. والأهم الهام المهموم هو أن تحجم قدرتها على التدخل في شئونه، بما يفتح له مساحة أوسع من (الحرية)خارج نطاق السلطة الحاكمة وتوجهاتها. 

***

ومن خلال استنطاق الآلاف من حجج الأوقاف المحررة في مصر والوثائق الحكومية، ومضابط البرلمان بالإضافة إلى المصادر النظرية والشرعية لفقه الوقف وأحكامه. عرفنا منه أن الوقف كان أيضا أحد أدوات المقاومة التقليدية لمشروع اللورد (كرومر) في مصر. ودور الوقف في العمل الوطني المصري إلى ما قبل يوليو 1952م. وصولا إلى القصة المؤلمة لسيطرة الدولة المصرية على الأوقاف في مصر وخنقها بعد الحركة المباركة. 

 هذا الكتاب قال عنه أستاذ الأساتذة فهمي هويدي أنه (سلط الضوء ليس فقط على مساهمات الأثرياء القادرين في عمارة المجتمع قبل تأميمه لصالح السلطة من خلال وقف آلاف الأفدنة والعقارات، وإنما أيضا مساهمات متوسطي الحال والبسطاء التي تمثلت في أسبلة المياه والمظلات التي كانت تقام لحماية الناس من حرارة الشمس وغير ذلك). 

***

لن ننسى الإشارة إلى أن الهيئة العامة للكتاب /سلسلة تاريخ المصريين أصدرت له من عامين كتاب (أوقاف أسرة محمد علي باشا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر ) والذي تناول فيه توضيح أوقاف الحاج محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة: قوله وطاش أوز/ وأيضا أوقاف الحاج محمد علي باشا على الحرمين الشريفين/ثم أوقاف إبراهيم باشا وعباس الأول وسعيد باشا/ أوقاف الخديوي إسماعيل وأبعادها الاجتماعية والثقافية والاستراتيجية/أوقاف الخديوي توفيق والخديوي عباس حلمي: دار الكتب المصرية، ودعم الحركة الوطنية/أوقاف السلطان حسين كامل ومؤسساته الخيرية/أوقاف الملك فؤاد والملك فارو/أوقاف الأميرة زينب: الأزهر والفقراء والعتقاء/أوقاف بمبا قادن والدة عباس الأول: مساجد آل البيت والأولياء/أوقاف البرنسيس فاطمة إسماعيل: حلم النهضة الشاملة/ الأوقاف الكاملة للأمير يوسف كمال: مدرسة الفنون الجميلة ومتحف الفن. 

***

لكنه من أيام معدودة صدر للدكتور إبراهيم كتاب عن (محمد على باشا) مؤسس مصر الحديثة تناوله من زاويته الأثيرة. الأوقاف. فعنوان الكتاب (جميع أوقاف الباشا) ووله عنوان فرعى (ملف وثائقي تاريخي) عن الدار المغربية للنشر والتوزيع 

كتابا مستقلا عن أوقاف محمد على باشا؟؟ لماذا؟؟

سيقول لنا في تفسير ذلك: أنه مساهمة منه في تنوير الرأي العام المصري عامة، وسعيا لتعريف الشباب منهم خاصة. ببعض أبسط حقوقهم في معرفة ما جرى لجزء غالٍ من ثروات بلدنا الحضارية والتاريخية. كما قال لنا في مقال مهم للغاية بجريدة الشروق في 30/8/2016م. 

وأضاف أنه: يسوق هنا بعض المعلومات الموثقة عما جرى في أوقاف قولة منذ منتصف الثمانينيات من القرن العشرين الماضي. فقبل أن يحصل محمد على باشا على جزيرة (طاش أوز) في سنة 1813م، كان قد أنشأ في مدينة (قولة) مسقط رأسه عدة مؤسسات وقفية تمثلت في: مسجد، ومدرسة بحرية، وكتبخانة، ثم ألحق بهذه المؤسسات مكتبا لتحفيظ القرآن بموجب حجة وقف مؤرخة وشكلت هذه المؤسسات منظومة خدماتية: تعليمية، وثقافية، ودينية، واجتماعية خيرية، تحاكى ما درج عليه عظماء السلاطين العثمانيين 

ثم أضاف محمد على، عدة وقفيات إلى وقف جزيرة (طاش أوز) ولم يكتفِ بها لأن عوائدها لم تكن كافية لتغطية نفقات مؤسساته الوقفية في قولة. إذ كانت (طاش أو) آنذاك لا تدر إلا عوائد قليلة وقد نما (وقف قولة) بمرور الزمن نموا هائلا، في حجم الأعيان الموقوفة لصالحه، أو في عوائدها وحاصلاتها. 

وذلك بفضل الإدارة الجيدة إلى منتصف أربعينيات القرن الماضي!! ولكن وقفيات قولة وما وقف عليها دخلت في سرداب التدهور والانحطاط منذ خمسينات وستينيات القرن الماضي!! التي لفت الأوقاف المصرية كلها بلفائفها السوداء. وأضحى (ملف وقف قولة) في قسم (الحجج والسجلات) بوزارة الأوقاف بباب اللوق هو الأضخم بين جميع ملفات الأوقاف. 

***

ولتضخمه أسباب كثيرة. ومن أهمها: كثرة التصرفات التي استهدفت الاستيلاء على أعيانه الموقوفة. وكان ذلك يتم تحت ستار الاستبدال والإبدال.  يعنى بيع قطعة أرض من الوقف وشراء قطعة أخرى تكون أكثر نفعا في مكان آخر، وهو ما لم يكن يتم غالبا. 

وكما يقول لنا العلامة د/ إبراهيم غانم: تحتاج وثائق (وقف قولة) إلى فريق متخصص لجمعها ودراستها ومعرفة محتوياتها، والبحث عنها وتحديد مواضعها في الواقع، وذلك تمهيدا لإعادة وصل ما انقطع من صلات كانت تربطه ومؤسساته بوقف (جزيرة طاش أوز) برمتها. 

***

محمد علي أنشأ تكيتين في الحجاز. واحدة في مكة المكرمة والأخرى في المدينة المنورة، ووقف عليهما سنة 1844م (2877 فدانًا) في مصر واشترط أن تكون التكيتان متهيئتين لإطعام حوالي 4150 شخصا سنويا من الفقراء والمساكين وقاصدي الحج.

سنعرف أن الرجل احتفظ لنفسه بحق النظارة على التكيتين. وضع تحت (لنفسه)هذه ألف خط وخط. وأيضا على ما وقفه لهما. علي أن تكون من بعده للأرشد من أولاده. إلي حين انقراض ذريته، فيكون النظر مفوضا لعدد من الأتقياء الصالحين وتفويضه. 

***

يقول لنا د/ إبراهيم إن تاريخ إنشاء وقفية التكيتين كان عام 1844م. أي بعد معاهدة لندن بأربع سنوات!! التي فرضتها الدول الأوربية على (الباشا) لتحجيم وتقليص دوره ورد نفوذه إلى داخل حدود مصر. 

والتي لا تزال مصر تدفع في أثمان أثمانها إلى الآن! ويكون علينا أن نستورد الأرز من الهند (1. 3 مليار نسمة) التي علمها د/ احمد مستجير (ت/2006م) أستاذ الوراثة بزراعة القاهرة في برنامجه (زراعة الفقراء) كيف تزرعه. والذي حققت به الصين أيضا الاكتفاء الذاتي من القمح!! كما يقول أحد تلاميذ الدكتور مستجير وأيضا جريدة المصري اليوم في 4/4/2013م. 

على أن هذا ليس موضوعنا. موضوعنا هل الخمر محرمة في القرآن وللا لأ؟ كما شغلنا فضيلة (مفتي الديار). 

***

عفوا. موضوعنا هو د/ إبراهيم البيومي غانم. والجهد الذي يبذله من سنين السنين ليثبت بالتاريخ العلمي الموثق أن (الأسرة العلوية) التي حكمت مصر 147 عاما كان تحب هذه البلاد وأهل هذه البلاد، وبقوانين التاريخ والأجيال. أصبحوا هم مصريين، وأصبح المصريون رواد المنطقة العربية كلها علما وتعليما وفكرا وفنا وأدبا وسياسة واقتصاد.. إلخ. 

أنا هنا أستطيع أن أفهم جهد د/ إبراهيم البيومي غانم فيما قرأ وبحث وكتب. واعتبره قطعة من (التاريخ الناطق) الذي يشير إلى (العظمة). عظمة الرجل الذي جاء إلى مصر وارتبط النهوض الصاعد الذي حدث فيها وبها ولها وارتبط باسمه. ولم يحدث قبله. 

إنكار الحقائق التاريخية في سياق سياسي وأيديولوجي. قد يكون أي شيء لكنه سيكون (لا تاريخ).