علي الصاوي يكتب: الانتخابات الرئاسية والجدار الصلب

ذات مصر

كان لرئيس وزراء بريطانيا الراحل تشرشل عبارة تقول: "لا شيء يُعلمنا السياسة مثل قراءة التاريخ" وكما أن قوانين الديمقراطية تُحقق لك المشاركة السياسية من دون قيود أو مؤهلات ذاتية خاصة، فإن قراءة التاريخ تعلّمك شكل ونوع الأدوات الغالبة في العملية السياسية دوما، وكيف تتشكّل خريطة النفوذ والمؤثرات وديمومة الأنظمة المسيطرة وإدارة الصراع.  

منذ حركة الضباط الأحرار عام 1952 ومصر تعمل بكتالوج واحد ربما هو الأنسب للتحديات الإقليمية المحيطة بها وعدوها التقليدي  المتربص، ومواجهة تهديدها الوجودي التي تعوزه القوة قبل السياسة والردع قبل الدبلوماسية، وهذا تحقق في تكوين جدار صلب اسمه المؤسسة العسكرية التي جاء حكمها تناغما مع المتغيرات العالمية الجديدة وانتقال قوى النفوذ والسيطرة من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فأرست المؤسسة العسكرية في مصر حكما قويا وشكّلت تحالفات إقليمية ودولية جعلت منها حليفا رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة واستطاعت بمرونة خلق توازن سياسي بين حلفائها الجدد والقدامى، فباتت الدبلوماسية المصرية عبر سنوات الملاذ الآمن للحلول الوسطى في كثير من القضايا.

تعيش مصر الآن حالة من الشد والجذب السياسي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، في ظل وجود معارضة داخلية منقسمة على نفسها يرى كلٌ في نفسه أنه المنقذ وخاتم أنبياء السياسة والأمل الأخير في إنقاذ مصر وتحقيق استحقاقات ثورية لم تر النور بعد، نرى حملاتهم الانتخابية تتصدرها عناوين ثقيلة ومعلبة تعكس مضمون برامجهم الانتخابية إذا وصلوا إلى الحكم، لكن هل المعارضة المصرية الداخلية --وليست المستأجرة في الخارج-- بشكلها الحالي على أتم الجاهزية ولديها الخبرة والاستعداد لتحكم دولة بحجم مصر؟

النظرة العامة تقول إن طموح بعض من يتصدر الترشح من المعارضة شخصي لا جماعي خطابات سياسية عاطفية وعنترية أكثر منها واقعية، يفوح من المشهد رائحة الرغبة في التغيير وفقط وإن غابت الأهلية وانعدمت الخبرة وغابت الرؤية، يريدون التغيير بأى ثمن وكأن أزمات مصر وتحالفاتها المعقدة وتوترات الإقليم ومشكلاتها الاقتصادية العميقة يكفي حلها والتعامل معها استحقاق انتخابي فقط.

لا يمكن فهم التحولات في مجتمع ما بمعزل عن النظام الدولي باعتباره الإطار الأوسع الذي تحدث فيه هذه التحولات، وما يحدث في مصر هو جزء من سياسة مجتمع دولي شكلته القوة، وخط مستقيم لا يحيد عنه إلا هالك في عرف المجتمع الدولي وإن كسب جولة فقد يخسر جولات أخرى إن لم يكن مؤهلا سياسيا ومعجون براجماتيا، يعرف قواعد اللعبة ومتى يتقدم ومتى يتأخر، ومصر لن تتحمل السقوط مرة أخرى في فخ حداثة التجارب وسط أزمات طاحنة بحاجة إلى تعاون سياسي لإصلاحها وتخفيف العبء الاقتصادي عن كاهل المواطنين، وقد ذاقت مصر في تجارب سابقة مرارة الهزيمة وفشل التجربة بسبب فصيل سياسي حديث عهد بتولى السلطة غير مرغوب فيه لا دوليا ولا إقليما ولا حتى مصريا، وفي النهاية تحول إلى بيدق في يد قوى أخرى للطعن في جسد الدولة من الخارج.

تمتلك الدولة المصرية جدار سياسي وعسكري صلب وأجهزة دولة لديها خبرة كبيرة في التعامل مع الأزمات وإن كان هناك بعض الأخطاء التي تحتاج إلى تقويم وعلاج لتقوية مناعتها وسد كثير من الذرائع التى تضعها موضع اتهامات وحذر، ومدخل للهجوم على الدولة المصرية وهذا ما تتطلبه المرحلة القادمة ضمن إصلاح هيكلي متكامل.

تحتاج مصر إلى استقرار حقيقي كى تخرج من أزماتها وتصفر ديونها، فلا مناخ ديمقراطي حقيقي في ظل وجود أزمات متجذرة لن تصمد أمامها أى نجاحات لاحقة، التغيير يبدأ بالإصلاح الداخلي أولا، نقاء وتخلية قبل التحلية، وقد رأينا رواد البيزنس السياسي في نادي الأناضول من يتدثرون بثوب المعارضة الوطنية ماذا فعلوا وماذا قدموا؟ غير تكديس الأموال وشراء الذمم ونزيف من المظالم وميراث من الأحقاد، فما أكثر الحصاد وما أقل الحاصدين، ليس هناك مؤسسة مستقرة وتملك القوة والتحالفات وتراكم الخبرات مثل التي تحكم مصر منذ سبعين عاما، تحتاج مصر إلى إصلاح جذري داخلي قائم على التعاون وإعادة توازن القوى الاقتصادية والاجتماعية لتعود مصر سيرتها الأولى، فلم تعد مصر تتحمل مراهقات سياسية وتجارب حداثية قد تتحول إلى ثغرات للعبث بأمن مصر، الجدار الصلب هو من أثبت فاعليته وقوته لكنه بحاجة إلى إصلاحات سياسية تزده متانة وقوة واستيعاب للآخر، وقد قرأت يوما لأحدهم عبارة تقول: "من الممكن أن يأتي رئيس مدني ويفعل ما يشاء لكن في حدود لا تتعدى إرادة الجسم الصلب؛ حقيقة واقعية شئت أم أبيت."

وعن الجدار الآخر الذي لم تكتمل لبناته بعد فقد رأيت فيه قول القائل:

إِنّي لَأَفتَحُ عَيني حينَ أَفتَحُها...عَلى كَثيرٍ وَلَكِن لا أَرى أَحَدا.