محمد مصطفى موسى يكتب: أخيرًا.. اتفق العرب ولكن ضد "المقاومة"

ذات مصر

في خيمة جهّزتها الأمم المتحدة، لاستقبال لاجئي كوسوفو، بمدينة ألبانية تسمى "كوكس" على مقربة من الحدود الصربية، جذبني ذاك المشهد الميلودرامي الغريب: شاب دون الثلاثين، متوسط القامة تحقيقًا، ربعة متين البنيان، أحمر الشعر كثيفه، على وجنتيه نمش خفيف، له ذقن ناتئ بعض الشيء، وفوق عينيه الخضراوين تستقر شحمة كثيفة، فتضفي على نظراته انطباعًا غائرًا بالحزن.

كان يجثو على ركبتيه، ويضم رأس شيخ في نحو الستين إلى حضنه، يطوّقها ما بين عضديه وصدره كأنه يريد إخفاءه في أعماقه، ويبكي بكاءً أسيفًا، فيما عيناه تُحملِّقان في كل زوايا الخيمة الواسعة، ذاهلتين حمراوين كأنهما جمرتان من قاع السعير، تلاحقان أشباحًا غير مرئية.

وكان ذلك في نهاية شهر إبريل/ نيسان عام 1998 إذ سافرت إلى البلقان في مهمة صحفية، إبّان حرب كوسوفو.

تقدمت بخطى مضطربة وسريعة في آن، إلى المشهد المثير، إن الصحفي يريد قصة، والقصة أثناء الحروب، يملؤها الأسى والألم والدموع، وكلما ازدادت "بهارات المأساة الحارقة" كلما صارت مقروءة، إن الصحافة مهنة بغير قلب وأعصاب ومشاعر، أو لعلها تنحي ذلك جانبًا حتى تفرغ من عملها، وبعدئذٍ يحق لمن يحترفها أن ينهار، أو يجهش في البكاء، أو يلجأ إلى العلاج النفسي، ليس مهمًا، ما سيعتريه من أوجاع، وما سيداهمه من كوابيس، ما دام جاء بِقصة، كما يقرر الحائز على جائزة بولتزر، سيمور هيرش في كتابه: "مذكرات صحافي استقصائي".

استعنت بمترجم من الألبانية إلى العربية، كان درس الشريعة، في جامعة بغداد، أيام كانت بغداد، فالألبان سواءً كانوا من سكان ألبانيا أو كوسوفو، لا يعرفون الإنجليزية، فشرع يخبّرني تأويل ما لم أحط به خُبرًا، من شأن هذا البكاء، نقلًا عن الشاب، الذي علا نشيجه، حتى خشيت أن يتوقف قلبه، من فرط التأثر.

"جنود الصرب قبضوا علينا لدى محاولتنا الفرار، كان القصف متوحشًا شرهًا، هددوني بإطلاق الرصاص على أبي، صوبوا فوهة مسدس حربي إلى جمجمته، توسلت باكيًا ألا يفعلوا، سألتهم أن يقتلوني أنا ولا يمسوه بضر، ضحكوا بهستيرية، لكزوني ودفعوني وبصقوا في وجهي، وأخذوا يتغامزون في عربدة الطغيان، فإذا بضابط منهم يأمرني أن أصفعه كيلا يقتلوه، هكذا طرأت الفكرة عليه، أراد التسرية عن نفسه، بهذه اللعبة الجهنمية، كان وجهه صارمًا، ارتبكت حين رمقني بنظراته المتعجرفة، دنوت إلى أبي مرتجفًا، يسوقني شيطان غضب مجنون، أو يدفعني خوف غاشم، شعور لست أفهمه، أردت أن أقبض بكلتا يديّ على رقبة ذاك الخنزير، في أعماقي تفور حمم بركانية، لكني كنت أعلم أن أية حركة غير محسوبة، ستفضي بي وبأبي معًا، إلى الهلاك الحتمي، صفعته بكل قوتي مقهورًا ذليلًا، هويت براحتي على خده بمنتهى الإصرار، ومنتهى الاستسلام، والجند من حولي يقهقهون".

هكذا روى الشاب، وأنا أصغي مطرق الرأس متحاشيًا ما أمكني، النظر إلى محياه الذي لم تبق فيه عضلة في موضعها، ولمّا فرغ من روايته، عاد لاحتضان رأس أبيه، وهو يصرخ صرخات أنين ملتاث: "سامحني يا أبي"، في حين أخذ الشيخ يرسل إليه نظرات صامتة، يفيض منهما مع الحنان والحدب، شعورٌ مريرٌ بالأسى وقلة الحيلة.

في الأحياء المصرية الشعبية، يحدث ما يشبه ذلك، إذ قد يصفع أب ابنه مثلًا، إذا تورط في مشاجرة مع عضو بعائلة ذات بأس ونفوذ، ذلك أن عقابه "مَنْ هو من لحمه ودمه" سيصير أهون من عقاب الغرباء الأشداء الغلاظ، وهذا مقبول ضمنيًا، رغم ما يحمله من خزي ومهانة.

وقد يلجأ الطواغيت إلى إجبار ضحاياهم على الفعل ذاته، على سبيل الإذلال، كما فعل المعلم حسونة السبع، الفتوة الفظ في ملحمة "الحرافيش" لأديبنا الكبير نجيب محفوظ، إذ أمر حليمة البركة، بصفع ابنها عاشور الناجي، لأنه "ناقص تربية"، فامتثلت وهي ترتعش من فرط الأسى، خوفًا على فلذة كبدها.

في المشهد مجنيانِ عليهما، الضارب والمضروب، ومعهما ظالم شديد القسوة، يتحكم فيهما، ويتلذذ بإخضاعهما إلى نزعات الشر التي تعوي في قلبه.

تجريم الضحية على الطريقة العربية

بطريقة ما.. يشبه ذلك فِعال عواصم عربية، إزاء حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إذ تجرّمها وتحظرها وتصنفها إرهابيةً، رغم تيقنها من أنها لم تقترف إثمًا، بل تقاوم احتلالًا مقيتًا، في إطار الحقوق التي نصت عليها القوانين الدولية، وجميع المبادئ الأخلاقية، لكن تأثيم المقاومة أدنى إلى السلامة، فلا قبل لهذه العاصمة أو تلك بالجهر بقولة حق، في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل.

وهكذا يغدو لا فرقًا بين ما فعله اللاجئ الكوسوفي مع أبيه، تحت تهديد جنود الصرب، وما فعلته حليمة البركة مع ابنها، في ملحمة "الحرافيش" تحت تهديد "الفتوة الغاشم"، وما تفعله عواصم عربية مع "حماس".. باستثناء أن مشاعر الحب والرحمة والشفقة تمثل الدافع في الحالتين الأوليين، في حين تضمر قصور عربية في الحالة الثالثة، عداءً مقيتًا وصادقًا للمقاومة.

ثمة حالة بائسة من التيه، فإذا عواصم عربية تتوجس الخطر في ما تسميه "النفوذ الإيراني"، الذي يُخشى أن يتسرب إلى المنطقة عبر دعم المقاومة، في الوقت الذي تفتح أبوابها للنفوذ الإسرائيلي الذي يتسرب كماء المطر، قطرةً تلو قطرة، فوق كوخ بدائي من القش، والمؤكد أن هذا الكوخ سيغدو فجأةً عصفًا مأكولًا، وسيتشرد ساكنوه في العراء.

هذا موسم الهجوم على "حماس"، وشيطنة المقاومة إجمالًا، من منطلق الخصومة مع إيران، أو قل التنافس السياسي الإقليمي، وهو أمر طبيعي وعلى الدول التي ترى نفسها جديرة به، أن تسعى إليه، ما استطاعت سبيلا.

عرض هزلي سخيف، يُراد أن يفضي إلى إدانة صرخة الضحية، واستقباح المقاومة فعلًا وفكرًا ومبدأً أخلاقيًا، وفيه -أي العرض- تتمايل رؤوس عربية طربًا، على وقع نعيق القسوة المرعب، إذ ينبثق من حناجر الجلادين، وهم يسفكون دماء الأبرياء.

إن العرب الذين قيل عنهم في زمان ما: "لقد اتفقوا على ألا يتفقوا"، ها هم أولاء متفقون لكن ليس ضد الاحتلال، بل ضد "حماس"، أو قل ضد ما تقتضيه العروبة، التي صارت تحت القيادة الرشيدة، لعديد من أصحاب الجلالة والسمو والفخامة، مثل محظية تُدَّلك ظهر نتنياهو، وتدهنه بدهن العود وزيت القرنفل، ولا بأس في أن تُقدم له على سبيل الكرم الحاتمي المعهود، كؤوس الويسكي المعتق، حتى يحتفل بقتله الأشقاء.

إدانة المقاومة في الإعلام "المُسيّر"

وما دام الحال كذلك، فلا بأس أن تُفتح أحضان الصحف والمواقع والفضائيات، لأولئك المستعدين دائمًا، والمشتاقين دائمًا، لتقديم فقرات التعري الأخلاقي والإنساني، فإذا بمطبوعة عربية تصدر من العاصمة البريطانية لندن، تشرع أبوابها لكل من هب ودب، لكي يكتب مقالًا، بشرط أن يدين المقاومة، حتى إن واحدًا من جهابذة الكتاب على صفحاتها، لم يسجل حرفًا، ولو تلميحًا وترميزًا عن جرائم الحرب الصهيونية، وإذا بأخرى تصدر من القاهرة، ونحن نعلم بالطبع حجم حرية التعبير في المحروسة، تُلوّن عناوينها بالأبيض والأزرق الفاتح، ومن بينهما نجمة سداسية، وإذا بمن يسمون أنفسهم المستنيرين والحداثيين والتقدميين، يتصدرون الفضائيات، ليغمدوا الخناجر في ظهر حماس، أو بالأحرى ظهر كل ما هو فلسطيني.

هكذا هي الأوامر الفوقية، والمعلوم بالضرورة أن الإعلام العربي مسيّر وليس مخيرًا، ولا طاقة له أن يخرج عما يمليه "طوال العمر"، ولا يريد أن يهدر وقت الرقباء، أو يتعب قلب الخلفاء، كما يقول شاعرنا أحمد مطر.

وعلى هذا الأساس، لم يكن مفاجئًا أن تجترّ القمة العربية والإسلامية "المدمجة"، في الرياض، قرارات مكررة مستعادة، تدين وتشجب وتندد، وتتحاشى تأييد المقاومة، ولو بجملة اعتراضية، وكذلك تحذر من قتل المدنيين، من الجانبين، كما لو كانت دماء الشهيد الذي يدافع عن أرضه، تساوي دماء المستوطن الذي سلبه إياها.

وفي كل الحالات، لا تلويح بوقف الهرولة الرسمية للحقاق بقطار التطبيع، فالسلام خيار استراتيجي، والأمة ذات الأمجاد، لن تتخلى عن هذا الخيار، ربما لأنه ضروري للسلطات، بفتح السين أو ضمها، لقد تشابه الأمر علينا.

يعود للراحل الكبير الدكتور طه حسين، فضل نحت مصطلح الأمركة، والظاهر أن الكلمة انتقلت من اللغة إلى ساحة السياسة، ومعها الصهينة، فالحال في بلادنا الناطقة بالضاد، لا يختلف في قريب أو بعيد، عنه في بلاد الفرنجة، إذ صار التعاطف مع الحق جريمة، كما هو حادث في بريطانيا من محاولات ديكتاتورية قمعية لتحريم التلويح بالعلم الفلسطيني، وهو الأمر الذي يبدو أن عواصم عربية تحسدها عليه، وتتمنى اقتفاء خطواتها، لولا الخشية من استثارة النيران المتأججة، تحت رماد صدور مواطنيها.

إن الإرادة العربية الرسمية تسير في ركاب الصهيونية، وقد جاء زمان ما كان لعربي أن يتصور أن يحيا أيامه اللزجة، ولا في أسوأ كوابيسه، وما من مساحة للضوء في العتمة الكثيفة، بعد المقاومة، إلا في الضمير الشعبي، وفي الإنسان العربي الذي يصطف خلف الحق الفلسطيني، ولو بالقلب خوفًا من بطشة الباطشين، وتجنبًا لقمع القامعين، أولئك الذين ينددون ويشجبون ويستنكرون في العلن، ويرسلون العسس في الظلام، لاعتقال مواطنيهم، لمجرد أنهم رفعوا العلم الفلسطيني في مظاهرة سلمية.