هشام الحمامي يكتب: الصهاينة العرب.. والإنكار الأبله للحقيقة

ذات مصر

من أيام قليلة كتب د/ مأمون فندى الباحث السياسي المعروف، في تغريده طويلة عن مسألة (الصهاينة العرب) والتي ظهرت إعلاميا خلال الحرب الأخيرة بين المقاومة وإسرائيل، وضرب مثلا بالحالة اللبنانية والتي كان كل من يمثلها مسيحيون مارون، وأوضح كيف أن الشاعر الذي كتب قصيدة (زهرة المدائن) التي غنتها السيدة فيروز سنة 1967م، كان هو نفسه الذي هلل لمذابح صابرا وشاتيلا ودخول إسرائيل لبنان 1982م، ناهيك طبعا عن حالة د/ سمير جعجع (القوات اللبنانية) والرائد/ سعد حداد (جيش لبنان الجنوبي).

والحالة اللبنانية كلها، جغرافيا وتاريخ حديث، كما نعلم جميعا، هي حالة فرنسية استعمارية مصنوعة صنعا ومنحوتة نحتا من سوريا القديمة بعد الحرب العالمية الأولى (معركة ميسلون 1920م) والتي تم بعدها فصل الساحل الطبيعي لدمشق والحاقة بمديرية (جبل لبنان) مما جعل المسلمين في لبنان أقلية بعد أن كانوا أكثرية.

وتقسيم الشام كله عموما، تم في مؤتمر (سان ريمو الشهير 1920م) على خلفية ابتعاث دولة يهودية في قلب الشام القديم وتتماس مع مصر، وتفصل الغرب العربي عن مشرقه، وهذا كله كلام معاد ومكرور على رأى حكيم شعراء العرب وأحب الشعراء لسيدنا عمر بن الخطاب، زهير بن أبى سلمى:

ما أرانا نقول إلا مُعارا ** أو مٌعادا من قولنا مكرورا

***

وعفوا لهذا الاستطراد البعيد لكنه متصل بجرح الأمة المفتوح (فلسطين)، وعلى ذكر سيدنا عمر كلنا ستنذكر العهدة العمرية(638م) والتي كان منها: (...أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء (القدس) معهم أحد من اليهود...) وكان بطلب البطريرك صفرونيوس، الذي أصر على تسليم سيدنا عمر شخصيا مفاتيح القدس بنفسه، بناء على ما ذُكر عن صفات الفاروق في كتبهم.

وكان إخلائها(القدس)من اليهود بناء أيضا على طلب البطريرك، والتقاطع هنا بين ما هو تاريخي موثق وبين ما هو ديني مدوًن أمر مهم، لاتصاله بواقع الحال.

***

الأستاذ مأمون تساءل في تغريدته قائلا: هل مسألة (الصهاينة العرب) أمر جديد أو طارئ مرتبط بحرب غزة، أم أن العداء للفلسطينيين له جذور أبعد؟ أم أنه ظهر مع اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 أم قبل ذلك؟ 

وأضاف: سعيد عقل كان محبا للفلسطينيين عن بعد (زهرة المدائن) ولكنه كاره لوجودهم في لبنان (عن قرب) ثم قال: واتخذ سعيد عقل المثقف مثالا، ولن أتطرق إلى مواقف الساسة ممن انخرطوا في مساعدة إسرائيل بشكل مباشر، كما سبق.

وفسر ذلك: بأن الظاهرة تتموضع الآن في سياق مختلف يتكون من حرب إسرائيل على غزة من ناحية، وسياق (الحرب الباردة الثقافية العربية) فيما بعد الربيع العربي، والتي كان طرفاها(الإخوان)من ناحية ودعاة (الدولة الوطنية) من ناحية أخرى.

واستنتج أن: الصهاينة تحدث في التقاطع ما بين الحربين: حرب غزة والحرب الباردة الثقافية، ولهذا تشوبها الضبابية في التفسير، وفي وضع الناس في خاناتهم المحددة.

والحقيقة أن الموقف ليس به (ضبابية)على الإطلاق، فكل طرف أخذ موقفه بناء على وضوح رؤية شديد لنفسه وللموقف الذي أتخذه، وحالة الشاعر اللبناني (سعيد عقل) تتمثل في كونه شاعرا كان يتملق الجماهير العريضة ويسعى إلى (مكانة) بين الشعراء ليس أكثر، ولذلك كتب قصيدته التي تلمس (عصبا عاريا) عند هذه الجماهير، وسيتكفل صوت السيدة فيروز بتوصيله إلى غرضه الشخصي، وهو بالأساس كان الراعي الأول والرسمي لحالة(فيروز/الرحبانية) التي سطعت في دنيا الغناء والفن ولا تزال.

والرجل لم يغادر (مسيحيته) أبدا في موقفه كله، سواء وهو يكتب القصيدة، أو وهو يرحب بغزو إسرائيل للبنان.

هنا فقط تقاطع بين ما هو شخصي بحت (نجوميته)، وبين ما هو عقائدي محض(دينه).وقس على ذلك موقف الجميع.

***

(الحرب الباردة الثقافية) والتي رأى الأستاذ مأمون أن (الصهاينة) تتقاطع فيها بين تجربة (الإخوان 2012م) وحالة (الدولة الوطنية)، لا هي حرب ولا هي ثقافية ولا هي باردة! مثل (الإمبراطورية الرومانية المقدسة) لا هي إمبراطورية ولا هي رومانية ولا هي مقدسة كما قال فولتير!!

وأظن الأستاذ مأمون يعلم كل شيء عن قصة (الدولة الوطنية) هذه والتي جاءت على أنقاض حرب 1948م لتقر وتثبت كل ما ترتب عليها، ليس فقط إقرار حقيقة: إسرائيل وجدت لتبقى (كما قال أبو مازن لا فض فوه!).

ولكن أيضا لتنتج لنا كل ما شهدته الساحة العربية من الخمسينيات بعد خروج الاحتلال، وحتى 7 أكتوبر 2023م، مرورا بتكوين حالة (الصهاينة العرب)، والذين هم نتاج طبيعي للغاية، لأفكار وممارسات هذه الدولة الوطنية طوال عقودها السحيقة، والتي (لا تتقاطع) مع تجربة حكم (الإخوان)على فكره، والطفل في بطن أمه، يعلم قصة انتخابات 2012م هذه، كيف تكونت؟ ولما تكونت؟ وماذا أنتجت وكونت؟

والموضوع طويل ومعقد وملئ بدهاليز (مليئة)بالشوائب النفسية والفكرية والتربوية والتنظيمية من السبعينيات، وسنتوقف مؤقتا هنا عن هذا الحديث غير المرغوب فيه، الآن على الأقل.

***

وسيكون هاما هنا أن ننتبه إلى أن اعتذار د/ أسامة الغزالي حرب عن موقفه الذي اتخذه، كواحد من مثقفي مصر والعالم العربي، إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، بعد نصف قرن من المعايشة ومئات الدراسات والأبحاث العلمية والمقالات الصحفية، والمقابلات الصحفية، والزيارات الميدانية، ثم جاء عليه اليوم الذي لم يكن يتوقعه!!

قائلا: تابعت بغضب وسخط وألم ما حدث ولايزال يحدث، من جرائم وفظائع في غزة، يندى لها جبين الإنسانية، يقتل فيها آلاف الأطفال والنساء، وتدمر فيها المنازل والمباني على رؤوس البشر، وتصطف فيها جثث الأبرياء لا تجد من يدفنها.

ثم يكرر لنا اعتذاره الطريف عن (حسن ظني بالإسرائيليين) الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة!

وهذا الاعتذار على فكره، موصول بنفس حالة (الصهاينة العرب) لأن د/ أسامة الغزالي، ومن هو مثله، ساروا في طريق اختاروا فيه (أنفسهم وذاتهم ومصالحهم) أولا وثانيا وثالثا.

وتفاجأه أو تفاجعه بالروح العنصرية البغيضة الإجرامية لإسرائيل، يدينه بشكل سيئ جدا كمثقف وكباحث سياسي وكأي حاجة، عيب كبير هذا الذي ذكره في حيثيات اعتذاره، فمن لم يكن يعرف ذلك عن إسرائيل من اليوم الأول لتأسيسها؟!

ولن أفاجئه بقول إن أحدا لم يكن ينتظر منه هذا الاعتذار، بل ولم يكن يتطلع إليه، والحديث هنا عن د/ أسامة كـ (فئـة) وليس كـ (شخص) فقط.

***

وأفضل شيء لهم جميعا هو الصمت، والانزواء بعيدا، حتى تنتهي قصتهم مع الحياة نفسها، وليس مع إسرائيل فقط، لقد ساهموا عامدين قاصدين في تسميم حياتنا العامة كلها، بكل مواقفهم الرديئة، التي اختاروها كشخصيات تتحرك في المجال العام، من تاريخ قيام الدولة الوطنية (التي يتحدث عنها د/ مأمون!!) وإلى يومنا هذا.

لم يقفوا بجانب (الناس)، هم وقفوا إلى جانب منتهكي حقوق الناس، وفعلوا ذلك إيثارا لأنفسهم ومصالحهم وراحتهم وهنائهم الشخصي.ولنتذكر ما قاله المفكر الكبير (إدوارد سعيد ت/2003م) في كتابه الشهير (المثقف والسلطة) وكيف عاش المثقف وهو يخاطب السلطة، هل كان يخاطبها باعتباره محترفا ضارعا إليها؟ أم باعتباره ضميرها الهادي الذي لا يتلقى مكافأة عما يفعل؟، كلهم تقريبا اختاروا النوع الأول.

أما صغار السفهاء الذين يتحدثون عن المشهد الحالي في فلسطين (غزة وحماس) بكل هذه الحقارة والتدني والإنكار الأبله للحقائق، من شدة الحقد والبغضاء والكراهية، للبناء الفكري والتربوي والتاريخي التي جاءت به (المقاومة) من أقصى المدينة، مكتسحة كل المهازئ والمهازل القديمة من طريقها وطريق الشعب الفلسطيني.

فهؤلاء بالفعل صغار، وتملؤهم التفاهة الرخيصة للغاية، التي حدثنا عنها الأديب الكبير ميلان كونديرا (ت/2023م) في روايته الشهيرة (حفلة التفاهة) وحكى لنا فيها قصص الأكاذيب الساذجة، التي ما كان الجمهور الصالح يجد أمامها سوى الضحك الصاخب.

لم ينتبه هؤلاء الصغار، ولن ينتبهوا، إلى أن شيئا كبيرا يحدث الآن.