علي الصاوي يكتب: أولاد بن جوريون

ذات مصر

عندما عجزت بريطانيا عن كسر شوكة الهند وإخضاعها بالقوة، برز رجل اسمه توماس مكولاي وجاء بفكرة الاستعمار الداخلي الناعم الموجه للقيم والأخلاق بعيدا عن السلاح والمواجهة العسكرية، والتي تقول: علينا بذل قصارى جهدنا، لتربية طبقة تترجم للملايين الذين نحكمهم ما نريد، طبقة من أشخاص هنود الدم والبشرة، لكنهم إنجليزيو الذوق والأفكار والتوجه والأخلاق والعقل، وقد تبنى الفكرة الحاكم البريطاني للهند، فخلد التاريخ مكولاي بجيل من الهنود، يحتقرون ثقافتهم، ويمجدون ثقافة مستعمريهم، ويحاربون بضراوة بني جلدتهم الذين يرفضون بقاء المستعمر، أصبح هؤلاء يعرفون بأولاد مكولاي، حتى أن أحفاد ذلك الجيل المتأنجلز وصلوا إلى مناصب رفيعة في بريطانيا الآن ويؤيدون ما تفعله إسرائيل.

ويبدوا أن إسرائيل استنسخت الفكرة وتبنّت على مدار سنوات في مراكزها البحثية وقنواتها الإعلامية شخصيات عربية لقيطة ودعمتها لتدافع عنها وتروج لسرديتها إذا اشتد الصراع، فالأموال حاضرة والنفوس جاهزة، وإن جاز التعبير سوف نطلق عليهم أولاد "بن جوريون"، أولئك الذين كشفتهم محنة غزة وهم يدافعون عن الاحتلال ويُحمّلون أصحاب الأرض المسؤولية، ويضخمون من قوة جيش العدو لزرع الخوف والرهبة وتكريس للهزيمة المعنوية.

بات أولاد بن جوريون في كل مكان، في المؤسسات الإعلامية وعلى منصات التواصل الاجتماعي وفي أروقة السياسة ووراء غرف الشات المغلقة، كل وظيفتهم احتقار المقاومة وتقزيمها وشيطنتها وتقديم الكيان على أنه واحة للديمقراطية والحياة السعيدة ومن حقه الدفاع عن نفسه من الإرهاب، ولو كان الأمر بيدهم لقالوا للناس: تهوّدوا وكونوا على مِلتهم تفلحوا وتُفتح لكم خزائن البنوك والقروض والامتيازات، حتى أن أحد هؤلاء قال: إن أرض فلسطين ليست عربية وإن ما قرأه عن المدينة المقدسة يشير إلى أنها مدينة يهودية!

أولاد بن جوريون يكذبون ويكذبون حتى يصدقوا أنفسهم، لا يعرفون طريقا للإنصاف، يُجيدون جلد الضعيف، المأكول حقّه والمشرّد منذ خمسين عاما بين دول العالم، والمشترك بين هؤلاء المنبطحين هو كراهية الإسلام، ذاك هو المدخل للتصهين والاستماتة في الدفاع عن إسرائيل، أولاد بن جوريون ينفثون سمومهم عبر منابر متنوعة، برامج تليفزيونية، منصات تواصل اجتماعي، مقالات صحفية، ندوات ومؤتمرات، لا يتورعون ولا يخجلون فقد بات التصهين أمرا مألوفا بالنسبة لهم ومصدر دخل جيد.

أولاد بن جوريون ينالون من الرموز التاريخية ويُسفهون كل نصر حققوه للتقليل من إنجازاتهم ومكانتهم بين الناس، ولكي يُجمّلون كذبهم ببعض المكياج يقولون: نحن مع حق الشعب الفلسطيني في استعادة وطنه، لكننا نريد الحفاظ على حياته ولسنا مع المقاومة التي تجلب الموت للفلسطينيين! منطق ضحل وتفكير سقيم لا يرقى لمعنى ومفهوم التحرر الوطني، وهل هناك تحرر بلا خسائر؟ ألم يقل تشرشل لشعبه وهو يخوض حربه ضد هتلر إنه يَعدهم بالدم والدموع والعَرق قبل أن يقودهم إلى النصر؟ وهل احتلت إسرائيل فلسطين بالورود والرياحين مثلا؟ ما لكم كيف تحكمون؟ نعرف أن للمال بريق وسحر ينخر العقول ويأخذ بالألباب ويُغيّر النفوس، لكنه لا يُحوّل الباطل إلى حق ولا يستطيع أن يهدم ثوابت العدل ويساوي بين الجاني والضحيّة، فمن لم يكن إنصافه من قلبه لن يرى النور أبدا ولن يجد للحق سبيلا.

كلما اشتدت الأزمة وطالت فهمت أن حملة النظافة التي تقوم بها المحنة ما زالت مستمرة وأن هناك كثير من المدعين والمهزومين والمأزومين لم يُفتضح أمرهم بعد، ما زال نصاب التنظيف لم يكتمل، ففلسطين هى خط التماس بين تمام الحق وتمام الباطل كما قال القيادي الفلسطيني الراحل فتحي شقاقي، وما يحدث في غزة اختبار صعب سقطت فيه الإنسانية في وحل المصالح الرخيصة، وباتت شعارات العروبة والقومية خرافات سياسية وإرث عقيم عفى عليه الزمن، وحلّت مكانها مصطلحات التطبيع والتعايش في سلام وحق المحتل في الدفاع عن نفسه وعلى الضحية أن يموت في صمت.