علي الصاوي يكتب: الجميلة والسياسي

ذات مصر

الوقت العاشرة مساءً، المكان حيّ "بي أوغلو" بالقرب من ميدان تقسيم بمدينة إسطنبول، الجو حار والرطوبة عالية والأجساد متنافرة لا تُطيق الالتصاق ببعضها، المشاعر مختلطة بعرق حرارة الصيف القائظ، والحوائط والأعمدة غارقة عن آخرها بملصقات دعاية الانتخابات الرئاسية والشارع في شد وجذب بين مؤيد ومعارض، وقف شاب طويل القامة نحيف البنية ينتظر فتاة لأمر هام في حارة ضيقة، على ناصيتها محطة حافلات، لحظات وجاءت الفتاة ونزلت من الحافلة وصعدت تلة عالية، مشت قليلا ثم وقفت تلتقط أنفاسها بسبب تضاريس الحى ومنحدراته الوعرة، هكذا هى حواري منطقة بي أوغلو القديمة، وصلت الفتاة وذهبت مع الشاب للجلوس في مقهى قديم على طراز حانة باريسية عتيقة وديكور كلاسيكي يسافر بخيالك إلى العصور الوسطى.

جلست الفتاة على طاولة دائرية بجوار النافذة وبعد أن هدأت وسكنت حرارة أنفاسها من الصعود، سألها الشاب: ماذا حدث؟ قالت الفتاة: لقد تحدثت معها وحاولت استدراجها في الكلام حتى أنني عرضت عليها مبلغا ماليا كبيرا لكنها رفضت ولم أخرج منها بشيء، انزعج الشاب من الكلام وقال: ماذا أقول لصاحب السعادة غانم بك، هذا الأمر مهم بالنسبة له يريد أن يعرف ما الذي تملكه الفتاة من وثائق وتسجيلات، إنها شخصية غامضة ولا نعرف عنها شيئا، سكوت وحيرة ونظرات خيبة متبادلة بينهما على أصوات مشروب بارد وانتهى اللقاء بلا معلومات مفيدة.

غانم بك صاحب الرأس الضخم والجسد السمين والأوداج المنتفخة يجلس في مكتبه حائرا فقد كثر الكلام أن هناك من يملك وثائق خطيرة تكشف فساده ومؤامراته وألعابه القذرة، بقى في مكتبه يُفكّر ماذا يفعل؟ كيف يستدرج تلك الفتاة لتأتيه راكعة وتدلى بدلوها وتُفصح عما تملك؟ إلى أن أضله شيطانه كالعادة في استعمال طريقة رخيصة، ألا وهى سلاح تشويه السمعة للتأثير عليها كنوع من الضغط لتأتي صاغرة.

بحث غانم بك وتقصى من خلال عسسه وجَمع معلومات حول الفتاة، وبث حولها شائعات أنها غير سوية نفسيا وتمتهن فن الإغواء لصيد الرجال ليقعوا في شراك حبها لحسن جمالها الفاتن وقوامها الممشوق، حيلة عاجزة يلجأ إليها غانم بك للوصول إلى هدفه، لا يعرف طريقا للنزاهة والشرف، بدأت الخطة تؤتي ثمارها ووصلت الشائعات إلى محيط الفتاة الاجتماعي لتبدأ موجة من الهجوم الضاري عليها ممن يعرفها، كانت تعلم أنه لن يرحمها فما تمتلكه يكشف حجم قذارته وحقارته ووهن بيته المهترئ من الداخل.

انتظر غانم بك قليلا لتختمر الفضيحة وتؤتي أكلها، وذهب يحقق هدفا آخر، فهناك صيد ثمين ينتظره في أحد فنادق تكسيم، دخل غانم بك للقاء رجل أعمال كبير بُغية إقناعه ليدخل معه شريكا في أحد مشاريعه الوهمية ليحقق من وراءه مبلغاً كبيراً، لم يُفلح في إقناعه وما هى إلا لحظات ودخلت عليهما فتاة حسناء كانت نفس الفتاة التي التقت بالشاب في مقهى "بي أوغلو"، يبدوا أنها متعددة الأدوار والاستخدامات.

ما إن دخلت الفتاة حتى سال لعاب رجل الأعمال وتشتت ذهنه وزاغت عيناه وغانم بك منتشيا لنجاح خطته، فقد قرأ شخصية الرجل جيدا وعلم من أى مكان يأتيه لإجباره على دخول المشروع، جلست الفتاة في الجهة المقابلة والرجل نسى نفسه ثم مال برأسه على غانم بك وقال: مَن هذه؟ فرد غانم بك: إنها غالية الثمن! فقال رجل الأعمال: كم ثمنها يا تُرى؟ أجاب غانم بك: مليون دولار! وهنا تعجب رجل الأعمال من ضخامة المبلغ وفهم أن الرقم هو ما يريده غانم بك لتنفيذ المشروع، كانت تلك طريقته في صيد الصفقات المشبوهة من أرباب الأموال وإيقاع خصومه لكسر أعينهم وكف أذاهم عنه.

اختمرت الفضيحة وتغيرت حياة الفتاة للأسوأ بفعل غانم بك المشين، وقد علمت الفتاة أنه وراء تشويه سمعتها لتخضع وتأتي بما عندها من وثائق وتسجيلات لكنها كانت عصية على الخضوع، فغموض الفتاة وطريقة حصولها على تلك الوثائق أطار عقله، لذلك دمّرها وقضى على مستقبلها حتى هاجرت بعيدا تغالب الحياة وظروفها الصعبة ووحدتها القاسية فقد تخلى عنها الجميع وتركوها تصارع أقدارها.

مرّت الأيام وانطوت القصة مؤقتا في ذاكرة النسيان، إلى أن جاء اليوم المشؤوم على غانم بك حينما دخل عليه الشاب الذي أوكل له مهمة البحث عن الفتاة من البداية وفي يده ظرف مغلق، وقال: وصلنا هذا الظرف الأن على عنوان مكتبنا وعليه اسم سيادتكم، وضع الشاب الظرف على مكتب غانم بك وخرج.

فتح غانم بك الظرف وبدأ يقرأ كلاما خطيرا، الجواب يقول: قد علمنا أنك تسببت في تدمير فتاة مسكينة لا حول لها ولا قوة لأنها تعرف عنك الكثير بما لديها من معلومات، وهى بالفعل معها ما يُدمّرك، وقد حفظت منه نسخة في مكان ما، لكن ألم تسأل نفسك من أين جاءت به؟ استمر غانم بك في القراءة ثم أغلق الظرف بعد تفاصيل كثيرة ومثيرة وهو في صدمة شلّت حركته، فالجواب أشار إلى أن زوجته على علاقة مع أحد المقربين منه ربما بينهما قصة حب وهى من سرّبت الوثائق لحبيبها الذي قام بدوره بتسريبها للفتاة التي كان يعرفها قديما وجمعتهما مصلحة ولكى يحظى هذا الحبيب بثقتها مرّر لها تلك الوثائق للظفر بمصلحته وليحسّن من مكانته عندها، وتلك كانت المفاجأة الكبرى التي ذهبت بعقله وجعلته في حيرة وشك، قام غانم بك يبكى ويُكلم نفسه ويهذي كالمجنون، لكن الأصعب هو ختام الجواب الذي جاء فيه: تبحث عن عدوك في الخارج وهو يسكن داخل بيتك يا لك من مغفل كبير.