هشام النجار يكتب: في ذكرى استشهاد البوطي.. لقد كنتُ أنهاكِ عن هذا!

ذات مصر

أكتب هذا المقال عرفانًا وتكريمًا واحترامًا وتقديرًا لذكرى العالم الجليل محمد سعيد رمضان البوطي الذي قتلته أيدي الغدر والتطرف والإرهاب وهو يلقي درس التفسير بمسجد الإيمان بدمشق في 21 مارس 2013م.

كتبته لأنني أولًا أدين لهذا العالم الجليل بجزء مما تعلمته في الدين والفكر والفلسفة، ولأنني أحب سوريا وكل البلاد العربية وأتمنى أن تعود قوية موحدة متماسكة رادعة لأعدائها.

ولعلي أعود في مقال قادم -إن كان في العمر بقية- لأتحدث عن هذا العالم الشهيد باستفاضة أكثر.

سوريا مهد الحضارات والإشعاع الثقافي والتنوير والمعرفة والفنون والتسامح والتنوع ووطن الأمجاد والبطولات والتحدي والصمود، حولته الطائفية والتطرف المقيت والمنازعة الغشيمة على السلطة خلال سنوات إلى وطن مهجور ومُقسم.

دمرت الطائفية والتطرف مقومات العيش بسلام بين مكونات شعب طالما عاش أفراده أحبة متعاونين رغم الخلافات المذهبية والعقائدية ورغم الخلافات السياسية ورغم الشعور ببعض التمييز والغبن ورغم تجاوزات ومظالم وأزمات هنا وهناك.

ظلت الخلافات داخل البيت السوري وبين أبنائه، قبل أن يسعى الطامعون لهدم البيت واقتلاع أركانه والزج بمكوناته الى ساحة صراع دموي مرير، خلف واقعًا مأساويًا وكوارث إنسانية لا حصر لها وأرهق الوطن وأثقله بفواجع وثارات ومسؤوليات مصيرية تتطلب سنوات طويلة لمحوها وتجاوزها والنهوض بها قبل أن تعود له حيويته ونضارته وتماسكه وروحه من جديد.

سوريا الوطن الذى يفيض خيرًا وثراءً ووفرة وغنى وجمالًا حتى ليستثنى أمير الشعراء جنة الله في الآخرة فقط  للصعود بسوريا الى قمة البهاء والروعة بلا منازع ولا منافس:

لولا دمشق لما كانت طليطلة .. ولا زهت ببنى العباس بغدان

آمنت بالله واستثنيت جنته .. دمشق روح وجنات وريحان

سوريا الوطن كان لا يحتمل أبناؤه مفارقته والبعد عنه بل يجذب الى حضارته وجماله وسحره الشرقي الخلاب وفودًا من البشر من جميع أنحاء العالم يتمتعون بسحره وثقافته وحضارته وتاريخه وجماله وطيبة شعبه وذوقه الرفيع وثقافته العالية، ليتذوقوا طعم الحياة الأصيل كما قال شاعر ألمانيا العظيم جوتة: (من لم يول وجهه صوب الشرق فانه لا يستحق الحياة)، كيف به يتحول الى دمار وأنقاض وميادين مميتة قاتلة طاردة يهرب منها البشر طلبًا للنجاة والحياة؟

وطن يجمع ويحتوى مواطنيه من جميع التيارات والمذاهب والعقائد فى اطار من التعايش والتلاحم الوطني نحو أهداف ومصائر مشتركة، يحولونه الى كنتونات مذهبية متصارعة وكارهة لبعضها البعض، وبعد أن كان دولة سمتها التسامح والتنوع يصير دويلات منقسمة، يستقل بشماله متطرفون يطبقون نسخة دينية مغالية متشددة غريبة عن البيئة السورية وعن ثقافة وحضارة السوريين.

كنتُ أنهاكِ يا سوريا عن الاقتتال الأهلي والطائفي والصراع المسلح تحت عناوين ( الإصلاح)؛ فالطائفية هي أخطر مشكلات سوريا والوطن العربي، وهي مصدر التغذية الرئيسي للإرهاب والتطرف وهى طريق التمزق والتشرذم.

الإصلاح حقيقته وجوهره سلمى وليس قتالي، ولم يتحقق إصلاح داخلي بالتمرد المسلح قط على مدار التاريخ كله.

لقد كنتُ أنهاكِ يا سوريا إذا حدث خلاف أو شقاق أن تبادري بسرعة وحسم لإنهائه حتى لا يستغله الأعداء والطامعون وما أكثرهم وما أقساهم وما أشرسهم.

لنقرأ معًا حكمة التاريخ وخبرته:

بُويعَ لعبد الله بن الزبير بالخلافة في جميع الأقطار الإسلامية، في الوقت الذى بُويع فيه لعبد الملك بن مروان في بلاد الشام، ويحكى ابن كثير: (لما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، استفحل أمر عبدالله بن الزبير جدًا وبُويع له بالخلافة فى جميع البلاد الإسلامية، وبايعَ له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها، ولكن عَارضه مروان بن الحكم وأخذ الشام ومصر من نواب ابن الزبير، ثم جر السرايا إلى العراق ومات وتولى بعده عبد الملك بن مروان فقتل مصعب بن الزبير بالعراق وأخذها، ثم بعث إلى الحجاج فحاصر ابن الزبير بمكة قريبًا من سبعة أشهر حتى ظفرَ به سنة 73 هجرية).

وعندما اشتد النزاع وطال بين عبدالله بن الزبير والحجاج نهى الأئمة والعلماء بنَ الزبير عن النزاع (الطويل) على الحكم وطالبوه بالتنازل حقنًا للدماء، مع علمهم أن عبد الله كان على الحق، لكن القوة كانت مع الحجاج.

رغم أنه كان على حق طالبوه بالتنازل حقنًا للدماء، فما بالك بجماعة الإخوان وغيرها من جماعات التمرد ليست على حق وثبت أنها ليست جديرة بالحكم ولا تمتلك خبرات إدارة دولة؟

وقف عبد الله بن عمر – الذى  ناشد الحسين بن على رضى الله عنهم بعدم الخروج إلى كوفة العراق– على بن الزبير وهو مصلوب بعد قتله قائلًا له: السلام عليك أبا خبيب – ثلاثًا – أما والله لقد كنتُ أنهاكَ عن هذا، أما والله لقد كنتُ أنهاكَ عن هذا، أما والله لقد كنتُ أنهاكَ عن هذا!

في شرح النووي للحديث الذي رواه مسلم قال: قوله (لقد كنتُ أنهاكَ عن هذا)؛ أي أنهاكَ عن المنازعة الطويلة.

الواقع على الأرض دل قبل سنوات على أن حالة من العناد والتشبث بمصالح جماعات وتنظيمات وميليشيات وصولًا إلى مستنقع الاحتراب الأهلي واستنزاف الجيش ومؤسسات الدولة في صراع طويل دام مع التنظيمات المتطرفة المتمردة دمر اقتصاد البلد وعطل الإنتاج وضاعف المآسي وأعداد اللاجئين والنازحين داخل البلاد وخارجها.

قلت نصًا بمقال قديم لي قبل عشر سنوات: (جماعة الإخوان اختارت الوصول إلى السلطة على جماجم السوريين بمضاعفة الضحايا عشرات المرات وبكسر الجيش السوري وتقسيمه وتفكيكه، ولن يصل الإخوان إلى كرسي الحكم إلا بذلك، وساعتها تكون سوريا مهيأة لا لحكم الإخوان إنما للغزو والاحتلال، وبذلك تحقق أمريكا وإسرائيل هدفهما بإنهاك سوريا بيد أبنائها).

ليس عمر منازعة جماعة الإخوان على السلطة بمختلف الوسائل في سوريا والبلاد العربية عشر سنوات أو عشرين أو خمسين بل ما يقارب القرن من الزمان ولا تزال مستمرة، على الرغم من أنها نالت السلطة في بعض الدول وثبت فشلها، لكنها لا تزال تعاند وتتمرد.

المنازعة الطويلة الممتدة على السلطة أضرارها خطيرة على الأمة وعلى الدعوة وعلى الوطن، فالدعوة – لمن يبغى حقًا نصرة الدعوة الإسلامية- في حاجة إلى الحرية وإزالة العقبات أمامها وكسر القيود التي تقيدها، لا إضافة قيود وعقبات جديدة تحجب الناس عنها وتحجبها عن الناس.

النزاع الطويل على الحكم – منذ الثمانينات عندما بدأ تمرد إخوان سوريا على الدولة - يغذى الشحن والكراهية والأحقاد والاستنفار العام ضد كل ما هو إسلامي، ويجد المنافسون الفرصة سانحة في تلك الأجواء لوصم العاملين للدعوة والهداية بالإرهاب، وبذلك تزيد الفجوة بين الدعاة وعامة الناس.

المنازعة الطويلة -بل حتى القصيرة- على السلطة تستنزف الطاقات والجهود والأوقات والأموال والموارد البشرية في صراعات طويلة ممتدة، تجور على واجبات التربية وتنشئة الأجيال وتصحيح المفاهيم واستفاضة البلاغ وإقامة الحجة وتوثيق العرى بين الناس والدين والعاملين به، وهاهم قد قتلوا البوطي أحد أعلام الدعوة الإسلامية الذي تحول درسه الأسبوعي إلى أحد المظاهر التي يتميز بها المشهد الثقافي والفكري السوري.

ومع الصراع الطويل على السلطة تظهر العصبيات وتسوء الأخلاق وتنفلت الأمور وتضيع البوصلة ويصل الاستقطاب الى ذروته، وتبدد الجهود في أعمال موظفة لتحقيق أهداف تبدو مستحيلة أو ظنية في أحسن الأحوال، فيما تُهمل الأعمال الموصلة للتنمية والنهوض وإصلاح معيشة الناس وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية.

مثلى ومثلك يا سوريا كمثل ابن عمر والزبير؛ ويشهد الله أنني منذ بداية محنتك، كنتُ أنهاكِ عن هذا!