محمد عبدالكريم يكتب: «القوى المدنية» والأزمة في السودان.. «صمت الحملان»

ذات مصر

خبا حضور القوى المدنية بشكل ملفت في التأثير في مسار الأحداث في السودان، لاسيما عند عتبة ما عرفت قبل 15 أبريل الفائت مباشرة بورشة الإصلاح الأمني والعسكري، وصمت هذه القوى عن تبني موقف واضح إزاء مقاربة القوات المسلحة السودانية وتعارضها مع مقاربة قوات الدعم السريع بخصوص دمج الأخيرة في الجيش النظامي السوداني في فترة زمنية لا تتجاوز عامين، وفسر صمت هذه القوى المدنية، التي تصدرتها دون مبرر واقعي ما عرفت بالقوى الموقعة على الاتفاق الإطاري، بتحيز واصطفاف خلف رؤية قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" الذي نحا بدوره لترويج تبنيه خطابًا "ديمقراطيًا" قوامه تفكيك القوات المسلحة السودانية بهياكلها الراهنة حينذاك والعودة للمسار الديمقراطي وتسليم السلطة لقوى الاتفاق الإطاري التي لم تمثل في مجملها قاعدة سياسية تتجاوز 10% من جموع الناخبين السودانيين في أفضل التقديرات. وحاولت منافذ إعلامية متنوعة (من بينها العديد من أهم هذه المنافذ المؤثرة في مصر ذات الاهتمام اللصيق والعضوي بأمن السودان واستقراره، وبمخالفة هذه المنافذ للمصالح المصرية بشكل بالغ التناقض) تبني رؤية "حميدتي" والقوى المدنية التي اصطفت خلفه برعونة وانتهازية ساذجة في الصراع وأن سببه مساعي "الجيش" الاستئثار بالسلطة وإعادة حكم "نظام البشير" في رهان خاسر تضاءلت فرص نجاحه باستمرار مع اقتراب الأزمة السودانية من نهاية شهرها الثالث.

القوى المدنية وأزمة 15 أبريل: الشيطان في التفاصيل

عجزت القوى المدنية السودانية، تحت مظلة رئيسة وهي القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري بقيادة ياسر عرمان (المعروف بصلاته الوثيقة بإسرائيل والإمارات تنظيميًا وأيديولوجيًا مما أثار شكوكًا مبكرة إزاء طبيعة رؤيته لمستقبل السودان)، عن تبني خطاب سوداني عقلاني يضع مصالح الأمة السودانية في المقدمة وكان من الممكن أن يكون له تأثير وازن في تثبيط جموح حميدتي والقوى الإقليمية التي دفعته في مسار "التمرد". وجاءت استجابات هذه القوى عقب بدء الأزمة بالغة السطحية بمحاولة تبني موقف "وسط" ومواجهة اللوم بماشرة لقوى الإسلام السياسي "الكيزان" والنظام البائد بتحريك القوات المسلحة السودانية للانقضاض على المرحلة الانتقالية حسب مضمون بيانات هذه القوى وتصريحات عدد من قادتها. 

وبدت قراءة هذه القوى، كما قادها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير في أمتارها الأخيرة قبل انهيارها تمامًا بتحرك قوات حميدتي في الخرطوم 15 أبريل، بالغة القصور إذ نأت عن نفسها تمامًا -حسب تصريحات عدد من قادتها- ورأت أن ملف ورشة الإصلاح الأمني والعسكري ينتهج مسارًا "فنيًا" وليس سياسيًا، وتعاملت باطمئنان تام لوعود واشنطن وعدد من القوى الإقليمية (لاسيما السعودية والإمارات وإثيوبيا) بأن التوقيع على ما عرف وقتها "بالاتفاق السياسي النهائي" خيار حتمي وأن خروج القوات المسلحة السودانية من المشهد السياسي السوداني مسألة محسومة حتى قبل وضع أسس واضحة للانتقال الديمقراطية بإجراء الانتخابات العامة وإقامة المؤسسات النيابية المختلفة على أسس ديمقراطية. ومن هنا تجاهلت القوى المدنية بذل أي جهد حقيقي لتسوية الأزمة بين الجيش وقوات الدعم السريع ومالت لتوجهات الأخيرة ورؤيتها بضرورة ضبط دمجها في القوات النظامية السودانية في فترة "عشرة أعوام"، رغم أن ذلك الخيار كان يعني ضمنيًا تفريغ المرحلة الانتقالية من مضمونها واختزالها في تسليم السلطة للقوى الموقعة على الاتفاق الإطاري وإن بأغلبية بسيطة. 

ومع تصاعد حدة المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (خاصة بعد قررا مجلس السيادة عزل حميدتي من منصبه نائبًا لرئيس مجلس السيادة في 19 مايو وإعلانه متمردًا) تعمقت استجابات القوى المدنية (مختزلة في قوى الاتفاق الإطاري) السلبية، رغم جهد الظهور كاستجابات محايدة. وانكشف هذا الموقف تمام الانكشاف عقب مقتل والي غرب دارفور خميس أبكر (14 يونيو الجاري) على يد قوات الدعم السريع بعد ساعات قليلة من تصريحات مهمة له تتهم الأخيرة والميليشيات العربية المتحالفة معها بتنفيذ إبادة جماعية في الجنينة؛ إذ لم تبادر القوى "المدنية" بإدانة الدعم السريع واكتفت بإلقاء المسئولية على "طرفي الصراع" رغم وضوح ملابسات مقتل أبكر على يد قوات الدعم السريع. وتلا هذا الموقف انسحابات مهمة من مظلة الاتفاق الإطاري (التي كان خميس أبكر نفسه من الموقعين عليها في ديسمبر 2022) لمجموعات سياسية وقبلية وإدانات مهمة من نظارات مختلفة في مناطق متفرقة في السودان ولاسيما في دارفور. .   

القوى المدنية والوساطات الإقليمية والدولية: خارج السياق؟

والتقت مواقف القوى المدنية من الوساطات المختلفة في الملف السوداني (سواء منبر جدة أو وساطة الإيجاد التي فشلت تمامًا في تحقيق أيًا من بنودها الأربعة) مع مواقف قوات الدعم السريع وابتعدت بقدر ما امكنها عن موقف القوات المسلحة السودانية. واستمرت تلك الرؤية رغم فشل منبر جدة فشلًا ذريعًا (باعتراف الخارجية الأمريكية نفسها التي أعلنت في 22 يونيو الجاري تأجيل محادثات جدة "بسبب عدم جدوى التفاوض والفشل (السعودي الأمريكي) في وقف الحرب ووضع حد للعنف والانتهاكات المتصاعدة من الخرطوم إلى بقية مدن البلاد")، وكذلك فشل مبادرة إيجاد على الأرض بعد مرور مدة الأيام العشرة التي وضعتها خريطة طريقها في 12 يونيو الماضي لعقد لقاء بين عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وحميدتي نائبه السابق. واتضحت ضبابية رؤية قوى الحرية والتغيير في تصريحات للقيادي بمجلسها المركزي عروة الصادق (22 يونيو) عن إرسال ظهيره السياسي خطابًا مكتوبًا لملك السعودية بدعوة من رئيس حزب الأمة اللواء فضل الله ناصر للتدخل في الأمر وأنه إثر هذا الخطاب (هكذا) "انتظم منبر جدة الذي يشهد هذه الأيام مفاوضات حثيثة لتمديد وقف إطلاق النار لفترة أطول، تُمكن المواطنين من الترتيب لعيد الأضحى المبارك"، ونشرت هذه التصريحات في وقت متزامن تمامًا مع بيان الخارجية الأمريكية مما يكشف عن حجم انعدام الرؤية السياسية لقوى الحرية والتغيير والرغبة في الوجود في المشهد رغم خروجها فعليًا منه مع أحداث 15 أبريل. 

وتجاوز حديث القيادي بالحرية والتغيير القراءة الخاطئة إلى وضع سيناريوهات بناء على هذه القراءة وتوقع هدنة مطولة قبل نهاية يونيو (بمناسبة عيد الأضحى) وأن "يتم فيها تسهيل انسياب المعونات الإنسانية، التي تم تكديسها في مدينة بورتسودان ولم يصل الكثير منها مثل الادوية المنقذة للحياة، ومعدات المستشفيات الميدانية ، نأمل أن تصل إلى المناطق المنكوبة، ولم يقته التعليق على مبادرة الإيجاد والرباعية (بقيادة كينيا وعضوية إثيوبيا وجنوب اسلودان وإثيوبيا والتي رفضها الجيش السوداني جملة وتفصيلا في حينه) بشأن حل الأزمة مؤكدًا وجود تواصل من قبل الحرية والتغيير مع هذه المبادرات "فضلاً عن تواصل حثيث مع القوى الأخرى التي تريد أن تساهم في دعم مبادرة الحل الشامل، من ضمنها دول الترويكا، والاتحاد الأوروبي."

"جمعة الغضب" وبداية نهاية اختطاف "قوى الاتفاق الإطاري" للمرحلة الانتقالية

في مؤشر ربما إلى فقدان قوات الدعم السريع نقاط تمركزها في الخرطوم وام درمان شهدت مناطق متفرق بالعاصمة وشمالي أم درمان خروج مظاهرات منددة بهذه القوات (23 يونيو) وسلوكها في الأزمة بعد تحركات ملفتة لمكونات سابقة في قوى الحرية والتغيير ومكونات قبلية في مناطق متفرقة بالسودان في مسار التنديد بالدعم السريع، وكان ملفتًا تجاوز هذه التحركات السياسية المدنية لفزاعة "عودة الكيزان" ونظام عمر البشير لصالح رؤية مفادها ضرورة وقف الحرب في أسرع وقت ممكن وتحميل قوات الدعم السريع وشبكة داعميها الخارجيين مسئولية تدهور الأوضاع في البلاد ودعم القوات المسلحة السودانية في الفترة المقبلة للحفاظ على وحدة الدولة السودانية وسيادتها ثم جدولة لاحقة للمرحلة الانتقالية على أسس ديمقراطية سودانية حقيقية وليست إملاءات من الخارج كما تم في صيغة الاتفاق الإطاري (ديسمبر 2022) وقاد إلى فشله الذريع في كافة الاختبارات التي مر بها حتى بعد 15 أبريل 2023.

وفي ظل العودة القوية للقوى السياسية التي ظلت مهمشة خارج تفاعلات المجلس المركزي مع سفارات دول عربية وإقليمية وغربية في الخرطوم لصياغة المرحلة الانتقالية، بل واستباق اية انتخابات عامة مطلوبة بفرض مؤسسات انتقالية دون حدود لسلطاتها أو آجالها، فإن قوى الإسلام السياسي تمثل دعمًا قويًا (ومرحليًا أيضًا ريثما تضع هذه الحرب أوزارها على الأقل) لعودة الحياة السياسية في السودان وما تعرف "بالقوى الحية" لعدة اعتبارات أهمها القاعدة السياسية الكبيرة التي تتمتع بها ولا يمكن خصمها او إقصاءها عمليًا من أية عملية سياسية ديمقراطية مستدامة، وقدراتها التنظيمية المرتفعة، ودعمها للقوات المسلحة السودانية رغم تقلبات المرحلة السياسية في السودان منذ أكتوبر 2021، وثباتها السياسي بعد انتشار ما بات يطلق عليه محللون سودانيون "كيزانوفوبيا" اختزالًا لخطاب "مكارثي" تجاوز مسألة محاسبة نظام عمر البشير إلى تطلعات غير واقعية ببتر مكون أساسي في المجتمع السوداني من الحياة السياسية مع توقع استقامة هذه الحياة على المدى البعيد.

وفي حال استمرار السلوك "الذكي" (والمراوغ للغاية في واقع الأمر وإن كان يتسق مع السلوك البراجماتي التقليدي لهذه القوى في السودان منذ العام 1989)  للقوى الإسلامية في المرحلة الراهنة، بالابتعاد عن تبني خطاب عدائي مباشر والتأكيد على الاصطفاف خلف مشروع القوات المسلحة الوطني وتقاربهما في مسألة نهاية المرحلة الانتقالية بانتخابات عامة تتمتع بالنزاهة والشفافية للتأسيس لمؤسسات الدولة وشكلها وليس المسار العكسي الذي تبنته قوى الاتفاق الإطاري؛ فإن نهاية اختطاف "قوى الاتفاق الإطاري" للحياة السياسية في البلاد ستكون في مرمى البصر وبالتوازي مع أي طرح مستقبلي (بعد نهاية الحرب الراهنة) لعملية سياسية وطنية بجدولة واضحة ومخرجات وطنية تقوم على إجماع غالبية الشعب السوداني والقوى السياسية المختلفة المعبرة عنه. 

ما مستقبل دور "القوى المدنية" في السودان؟

تمثل التفكيكات الراهنة في مظلة الاتفاق الإطاري خطوة مهمة نحو إعادة تشكيل القوى السياسية المدنية في السودان بشكل أكثر وضوحًا واتساقًا مع طبيعة التنوع السياسي في الأخير وخفضًا لتوجهات الإقصاء السياسي التي حرمت قوى ثورة ديسمبر من البناء على منجزاتها حتى عزل الرئيس السابق عمر البشير واختزال هذه الثورة المجيدة في مجموعة الاتفاق الإطاري مع استبعاد متدرج لقوى أصيلة ساهمت في الثورة أو جنوحها للخروج من مظلة الاتفاق الإطاري. ويتوقع أن تسهم عملية إعادة تشكيل القوى المدنية الراهنة في بناء كتلة مدنية صلبة، وفق خطوط وطنية أو قبلية- أيديولوجية تقليدية لا تتبنى الإقصاء السياسي، يمكنها أن تصحح مسار المرحلة الانتقالية عقب نهاية الأزمة الراهنة (الأمر الذي بات أقرب من أي وقت مضى منذ أكثر من شهرين)، شرط أن يتصرف مجلس السيادة السوداني والقوات المسلحة السودانية بقدر من المسئولية الضرورية في طرح خريطة طريق سياسية جادة وغير مفخخة وشفافة وتعتمد على أقصى درجة ممكنة من الإجماع الوطني. 

كما قد تمثل نهاية الأزمة الحالية الباب الواسع لعودة الحياة السياسية بمكوناتها الأشمل في السودان، وفرصة كبيرة لإثارة نقاشات سياسية جادة لإعادة ضبط المرحلة الانتقالية وإكمال قضايا سياسية كانت مؤجلة من قبيل دمج قوات المعارضة المسلحة السابقة في الجيش الوطني السوداني (وربما اكتمال مسار عملية جوبا للسلام بشكل نهائي). 

في جميع الأحوال تظل قدرة "القوى المدنية" السودانية على استعادة دورها الرئيس مرهونة بحسم الصراع الجاري، والبناء على إسهامات قطاعات منها في اتخاذ مواقف واضحة من الأزمة (لصالح الدولة السودانية في المقام الأول وليس بين طرفي الصراع رفقاء الأمس)، والتوظيف الرشيد لأدوار شركاء السودان الإقليميون والدوليون وليس النظر لهذه الأدوار على أنها روافع لتعزيز المحاصصات السياسية أو مواجهة المناوئين السياسيين. وبطبيعة الحال فإن مستقبل السودان، حتى مع نهاية الأزمة الحالية، لن يكون مثاليًا بطبيعة الحال أو دون عوائق خطيرة، لكن أخطاء المرحلة الانتقالية (من مختلف الأطراف في السودان) ستمثل دروسًا قوية ستفيد القوى الحريصة على إعادة بناء السودان سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وأن يكون لهذه القوى صوت مسموع ومستندًا لإرادات شعبية أكثر إيجابية وطموحًا.