عبد الخالق فاروق يكتب: أخطاء بوتين الخمسة.. وهم الالتحاق بقطار الغرب (2-2)

ذات مصر

ربما كان الخطأ الأعظم للرئيس فلاديمير بوتين، وكل القيادات الروسية التي برزت بعد عام 1985 حتى قبل  تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي بسنوات قليلة - بدءا من  صاحب نظرية البروستوريكا والجلاسنوست (ميخائيل جورباتشوف)، مرورا بالرئيس المخمور بوريس يلتسن، ومجموعات المافيا الروسية التي صاحبته في الحكم والإدارة الاقتصادية والسياسية بعد عام 1991، وحتى تسلم الجنرال القادم من دهاليز أجهزة الاستخبارات الروسية العملاقة K.G.B " فلاديمير إليتش بوتين"  بداية عام 2000 - هو التصور القابع في خلفية مدركاتهم السياسية وقناعاتهم الفكرية والأيدلوجية بإمكانية الالتحاق والاندماج مع مجموعة السبعة الكبار G7  المتحكمون في الاقتصاد والسياسة العالمية. 

وفى لحظة ما استثنائية قبل التحالف الغربي الاستعماري ضم روسيا إلى مجموعة السبعة الكبار لتصبح مجموعة الثمانية G8  عام 1998 كثمن بخس لترضية الرئيس المخمور بوريس يلتسن، لكنهم سرعان ما صححوا الخطأ فأخرجوا روسيا من هذه المجموعة في أول أزمة كبرى واختلاف في الرؤى والسياسات عام 2014  بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم  فعادت روسيا إلى عالمها تلاحق الزمن من أجل إعادة الارتباط بالغرب الرأسمالي وإن بصور جديدة وأشكال جديدة. 

ويكشف تحليل الخطاب الرسمي لكبار المسئولين والدبلوماسيون الروس منذ انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي عن جوهر المدركات السياسية التي باتت تحكم وتسيطر على العقل السياسي في روسيا طوال العقود الثلاثة التي أعقبت هذا الانهيار السوفيتي وحتى لحظة الصراع المكشوف بين روسيا الاتحادية من جهة والتحالف الأطلسي الغربي من جهة أخرى. 

فتعبيرات وكلمات في وصف الروس للمسئولين الغربيين من قبيل "شركائنا" و"زملائنا" كانت هي السائدة طوال هذه الفترة الطويلة، بما يظهر طبيعة المدرك السياسي الكامن خلفها، كما أن غياب الإطار الآيديولوجي لدولة الاتحاد الروسي بعد التفكك السوفيتي، جعلها في حالة من السيولة الفكرية، والتيه الآيديولوجي مقابل الإطار الفكري والآيديولوجي الغربي القائم على مفاهيم اقتصاد السوق، وآليات العرض والطلب، والمبادرة الفردية، وتقديس الرأسمالية كإطار منظم لحركة المجتمع والدولة. 

وفى لحظة نادرة تساقطت الكلمات معبرة عن المدركات الكامنة والموقف "الآيديولوجي" الذي يحمله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حينما قارب بين ما أعتبره خيانة قائد ميليشيا "فاغنر" في الرابع والعشرين من يونيو عام 2023، وبين ما حدث أثناء الحرب العالمية الأولى حينما قام الحزب البلشفي بقيادة فلاديمير إليتش ليني، ورفاقه الكبار بالثورة على النظام القيصري الاستبدادي في أكتوبر عام 1917، مما أعتبره البعض سببا من أسباب هزيمة روسيا القيصرية في تلك الحرب العالمية وخروجها منها بلا مكاسب أو غنائم استعمارية.

لم تكن تساقط الكلمات مجرد زلة لسان، بقدر ما كانت تعبيرا صادقا عن مفهوم الرجل وموقفه المعادي للثورة الاشتراكية التي تربى هو نفسه في أحضانها وأصبح جنرالا في أجهزتها الأمنية الكبرى KJB. 

وبقدر ما كانت هذه الكلمات سقطة سياسية، بقدر ما كشفت طبيعة النظرة الفكرية التي يتعامل من خلالها الرئيس بوتين مع  التاريخ السياسي الذي مرت به بلاده، ونقلتها من بلد زراعي متخلف إلى ثاني أكبر قوة صناعية وعسكرية في العالم طوال سبعين عاما. 

ومن هنا يمكن تفسير كل السلوك السياسي للرئيس بوتين، منذ بروزه على سطح المسرح السياسي في روسيا والعالم عام 1999 حتى يومنا هذا. 

على أية حال.. لم تكن محاولات المفكر الروسي البارز " إليكسندر دوجين " في خلق إطار آيديولوجي للدولة الروسية الجديدة المتمثلة " بالأوروسية الجديدة " كافية لخروج الرئيس الروسي " بوتين "  والقيادات الروسية المصاحبة له في قيادة الدولة عن " أوهام الالتحاق بالغرب الرأسمالي " وركوب قطار مجموعة السبعة الكبار دون النظر حتى لدور الصين الصاعد، أو ثقل الهند المتنامي. 

حتى بعد أن تبين بوضوح مساحة التآمر الأمريكي والأوروبي على الدور الروسي، ومحاولات تطويقه جيو- سياسيا أكثر من مرة وفى أكثر من مكان، عبر ما يسمى الثورات الملونة  بدءا من الاتحاد السوفيتي ذاته عام  1991، مرورا بما أطلقوا عليه الثورة الوردية في جورجيا في نوفمبر عام 2003، والثورة البرتقالية في أوكرانيا  في نوفمبر عام 2004، وثورة الليمون في قيرغيزيا  في مارس 2005، وما ترتب عليها من بروز زعماء موالين للغرب ومعادين لروسيا، كما في حالة ساكشفيللى في جورجيا، وليونيد كرافتشوك، وبترو بوروشينكو، والممثل المسرحي الكوميدي فولوديمير زيلينسكي في أوكرانيا،  وكرمان بيككاييف في قيرغيزيا. وما ترتب على ذلك من أعمال عدائية وعسكرية ضد المواطنين الروس في هذه الجمهوريات،  سواء في جورجيا عام 2008، أو في أوكرانيا عام 2014،  وأخيرا في كازاخستان في يناير عام 2022. 

والأن.. من يتابع خطوات وسياسات وتصريحات الرئيس الروسي منذ بداية إعلان الحرب الكونية التي يديرها التحالف الأطلسي الاستعماري ضد روسيا في أعقاب العملية العسكرية الروسية ضد ممارسات وسياسات المجموعة النازية الحاكمة في كييف، نجده لا يختلف كثيرا عما كان قائما أثناء فترة الحرب الباردة التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى تولى جماعة الانحراف الآيديولوجي بقيادة ميخائيل جورباتشوف، القيادة والحكم في الاتحاد السوفيتي عام 1985 وأوصلت البلاد إلى حالة من التفكك والانهيار.

ولم تكن فترة عشق المحارم الذي جرى بين روسيا الاتحادية وما بقي من أوصال الاتحاد السوفيتي والغرب الإمبريالي العدواني سوى لحظة سكر روسي، ونشوة غربية بالانتصار، لم يكن لها أن تدوم أبدا بحكم وقائع الجغرافيا وحقائق التاريخ. 

ومن هنا فأن لغة الحرب الباردة التي استعادها الرئيس الروسي " فلاديمير بوتين " حاليا تفتقر إلى بنية أيدلوجية متماسكة تسمح لهذا الخطاب الجديد أن يستمر ويكتسب أراضي جديدة في المستعمرات القديمة للغرب سواء في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو غيرهما، وإلا سوف يجد نفسه عائدا إلى ما كان يردده منذ عام 2000 حتى عام 2022 بوصف الغرب شركاءه.. وزملائه.. 

ولا يعنى ذلك بالضرورة العودة إلى الإطار الآيديولوجي الماركسي المتشدد، كما لا يكفي الإطار الآيديولوجي الذي يقدمه المفكر والفيلسوف الروسي " دوجين " الخاص " بالأوراسية الجديدة ". 

فالأولى ( الماركسية ) تحتاج إلى إجراء تطوير فكرى وفلسفي عميق حتى يضفي عليها الطابع الإنساني المتناسب مع طموحات الإنسان الجديد وعصر التكنولوجيا ما بعد الصناعية، وإن كانت تحتاج إلى قيم العدالة الاجتماعية والشراكة في حسن توزيع الثروات والدخول. 

أما الثانية (الأوراسية الجديدة) فهي ذات طابع إقليمي أكثر من كونها إطارا أيدلوجيا عالميا Globalism  تقزم من الدور الروسي كثيرا وتحصره في نظام شبه إقليمي محدود. 

ربما كانت الإنسانية في طورها الجديد، وهي تبحث عن العدالة والخروج من ربقة الاستعمار الغربي الوحشي الذي استمر زهاء الخمسة قرون فأذل شعوب الجنوب والشرق، وأمتص رحيق زهورها، ونهب ثرواتها، وأخضعها لحفنة من عملاءه الحكام المحليين فأذلوا هذه الشعوب ومارسوا أشد أشكال الفساد الاقتصادي والسياسي وخصوصا الجنرالات والعسكر. 

هذه الشعوب تحتاج إلى إطار فكرى وآيديولوجي أكثر إنسانية، وأكثر عدالة، وهذا ما ينبغي أن يبحث عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالتعاون مع الصين وبقية شعوب الجنوب مثل إيران وفنزويلا وكوبا والبرازيل وجنوب أفريقيا، وأظن أن العالم حاليا يكاد يتلمس  هذا الطريق الجديد، والذى يحتاج إلى اجتهادات المفكرين والباحثين المستقلين وأن تنظم ورش عمل لكبار مفكري ومثقفي شعوب الجنوب في دورات مستمرة ودورية حتى نصل معا إلى صياغة مقبولة من أهل الجنوب تأخذ من العقائد المتسامحة ومن الاجتهادات النابغة، لتخرج لنا وللبشرية أطارا فكريا يخرجنا من عبودية الغرب الأطلسي الاستعماري.