أحمد أمين يكتب: الأمن القومي المصري (1)

ذات مصر

يمثل واقع مصر الحالي تجليًا لمدى عمق وتشابك السياقات الدولية والإقليمية في صنع وصياغة الأمن القومي المصري وتعريفه لدى صناع القرار في القاهرة. فالدول تَخُطُّ خططها الأمنية على المستوى الإقليمي والدولي بناءً على مدى إدراكها للسياقات المختلفة وتحديد أولوياتها من المصالح التي تعمل على تحقيقها والحفاظ عليها.

وتتحول بعد ذلك لاستراتيجيات كبيرة تحققها من خلال تكتيكات أكثر تفصيلاً وأصغر حجماً لترسم في النهاية صورة السلوك السياسي ومدى قربه أو بعده من تحقيق أهداف هذه الاستراتيجيات. 

ولا تُبنَى هذه الاستراتيجيات في محيط فارغ من اللاعبين الدوليين، بل تُصَاغُ في أصلها بناء على سلوكيات الدول الأخرى واستراتيجياتها المختلفة التي تتبانها لتحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية والسياسية والعسكرية وانتهاء بصورتها الحضارية العالمية.

ومصر تقع في قلب منطقة مليئة بالتفاعلات السريعة شديدة التأثير على الأمن القومي لمصر كدولة وكشعب، ومدى ارتباطها بمحطيها الإقليمي والدولي. ولا يمكن أن يُطلَقَ على سلوك مصر في محيطها الإقليمي والدولي سوى بسياسة: غض الطرف والانعزال المستمر.

وهذا هو الموقف المصري منذ اتفاقية كامب ديفيد حتى اليوم. ولم تخلُ بالطبع هذه العقود المتوالية من تدخل محدود في عدة أزمات، عادت بعدها مصر سريعاً لتبني ذات العنوان.

يجب في البداية أن نوضح للقارئ الصورة الدولية ببساطة، فهي على الرغم من بساطتها فهي شديدة التعقيد، ومرتبطة بإرث طويل من الهيمنة الأوروبية – الغربية على المشهد الدولي والإقليمي.

فعلى الرغم من استقلال المنطقة المعلن منذ منتصف القرن الماضي وإعلان قيام دولها المختلفة ارتكازاً على اتفاقيات سايكس – بيكو لتقسيم المنطقة على أنقاض تركة العثمانيين، إلا أن ذلك لم يفضِ إلا إلى تشرذم المنطقة وانعزالها عن السياقات الدولية لتصيح مفعولاً به على الدوام، مع إصرار استراتيجي أوروبي وغربي على الدوام كذلك بوأد أي محاولات أو طموحات لقيام دولة قوية في المنطقة.

وهذا ما يعبر عنه الوضع القائم والذي لا يتسم سوى بدول كبيرة متهاوية ومدمرة بفعل حروب خارجية كما هو الحال في العراق، أو بحروب أهلية كان للغرب اليد الطولى في تأجيجها وإزكائها أيضاً كما هو الحال في سوريا واليمن والسودان وليبيا. لهذا أصبحت المنطقة برمتها رهينة لتوجهات أوروبا سابقاً والولايات المتحدة لاحقاً؛ الامتداد العضوي الطبيعي لأوروبا، في توجهاتها في المنطقة العربية.

والحقيقة أن غالبية دول المنطقة تدين لأوروبا والولايات المتحدة من بعدها بقيام دولها والحفاظ على بقاء حكامها كنتيجة طبيعية للقضاء على الإمبراطورية العثمانية. ولا يعني هذا بالضرورة أن تكون الدولة العثمانية بريئة من عبثية المشهد في المنطقة والتي أفضت لوقوعها رهينة للقوى الغربية، بل تُعَدُّ هي المسبب الرئيسي في تخلف مجتمعات ودول المنطقة، ولولا فسادها واستبدادها وتجريفها للنخب العلمية والثقافية والسياسية بل وحتى العسكرية خلال فترات طويلة لما وقعت المنطقة برمتها فريسة للهيمنة الغربية، والتي رأت في هذه المنطقة فراغاً مستمراً من أي كيان يستطيع مجابهة أطماعها وتحقيق مصالحها التي لا تذر مصلحة لشعوب المنطقة إلا وحاربتها ووأدتها سريعاً من خلال كياناتها التي ساهمت في خلقها لتقضي على نفوذ العثمانيين في البداية، ثم لتتحول هذه الكيانات لوكلاء لصانعيها وساداتها الأوروبيين والغربيين لاحقاً.

ومما لا شك فيه فإن جل النخب التي دعمتها أوروبا والولايات المتحدة من بعدها تتسم في جوهرها بالفساد والعمالة لصالحها على الدوام، حتى وإن اتخذت غطاء سياسياً ينسجم من مصالح دول المنطقة وشعوبها بصورة معلنة، إلا أنها لا تسعى إلا لتكريس هيمنة من قاموا بصنعها من البداية. ولم ينج من هذه الصورة القميئة سوى دول المنطقة الكبيرة والتي امتلكت - وما زالت تمتلك – إرثاً حضارياً يستطيع المواجهة ويسبب القلق والذعر في الدوائر الأوروبية الغربية كما هو الحال في اليمن والعراق وسوريا ومصر.

لذا كانت الاستراتيجية الغربية المتبعة هو وأد أي محاولات لهذه الدول لتصبح نموذجاً يحتذى به لشعوب المنطقة لتتحرر من الهيمنة الغربية أو يهدد انفراد الغرب بالهيمنة على ثروات المنطقة وكياناتها السياسية والاقتصادية الوظيفية التي صنعتها، وذلك عن طريق التدخل السريع لهدم تلك الدول لتصبح بلا فاعلية وتستمر في الدوران في حلقان مفرغة من التخلف والحروب الداخلية بأنواعها المختلفة، طائفية أو عرقية أو دينية… إلخ.

ولم يبق في هذه المنطقة من دولة إلا واكتوت بهذه الخطط والاستراتيجيات. ولا يعني هذا بالضرورة أن تسلم حتى الدول التي تستجدي الدعم الغربي على الدوام من ذلك، بل لكلٍ منها خططها التي يمكن أن تطبق طالما خرجت عن الحدود المرسومة من قبل صانعيها، أو أصيبت بالشيخوخة وأشرفت على الوفاة. ولم يسلم من هذا كله سوى أمثلة قليلة من دول المنطقة، وفي مقدمتها مصر بالطبع. هذا على الجانب الدولي لفهم المنطقة وتفاعلاتها في السياقات الدولية.

أما على المستوى الإقليمي، فقد خُلِقَت وصُنِعَت دول المنطقة لتظل في صراع مستمر بين من يرتمي في أحضان الشرق أو في أحضان الغرب، أو من يريد أن ينجو بنفسه بعيداً عن هذا المشهد المتردي، وللأسف لم ينج منه أحد.

والمتتبع لتاريخ صراعات دول المنطقة البينية  لوجد العجب العجاب لدول تنتمي لنفس المنطقة، تحكم شعوباً تتكلم لغة واحدة، وتعتقد عدة أديانٍ لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. فهناك تاريخ حافل من الصراع بين سوريا والعراق، وبين لبنان وسوريا، وبين اليمن والمملكة العربية السعودية، وبين مصر والسودان، ومصر وليبيا، والجزائر والمغرب، وهكذا.

ولم تتفق أي من هذه الدول على وعي أمني مشترك يحقق مصالحها، للحد الذي تبحر فيه كل دولة أو دويلة لتحقيق أمنها الخاص على حساب أمنها الإقليمي. والمحصلة المنطقية خسارة الجميع. وفي الحالة المصرية يبدو المشهد أكثر اشتباكاً وتعقيداً وخطورة.

فمصر هي إحدى أكبر دول المنطقة، وأعظمها تأثيراً، وأضخمها من الناحية الاستراتيجية والمقومات السياسية والعسكرية والبشرية. ولذا، فإن مصر تبحر هي الأخرى بصورة منفردة للحفاظ على بقائها وتحقيق مصالحها، طالما أنه لا توجد رؤية مشتركة، ولا توجد حتى نوايا لوجود هذه الرؤية المشتركة من قبل دول المنطقة.

لذا يبدو المشهد في مصر متردداً على الدوام، يفضل الانعزال وغض الطرف، حتى لا تشتبك مصر في سياقات إقليمية ودولية قد تودي بها لحالة أكثر تردياً كما هي الحال في سوريا والعراق واليمن، مدركة تماماً أنه لو حدث ذلك فستجد نفسها وحيدة معزولة حتى عن محيطها الإقليمي، مع تعاظم التحديات يومياً والتهديدات التي تواجها مصر كما سنشير في قابل المقالات.