هشام النجار يكتب: في عشرية داعش.. ماذا كتبتُ عنه قبل عشر سنوات؟

ذات مصر

بعد عشر سنوات كاملة من تأسيس أخطر تنظيم إرهابي خلال العقدين الماضيين وهو داعش (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) أُعيد هنا نشر مقال تضمنه فصل من فصول كتابي (داعش السكين التي تذبح الإسلام) المنشور عن دار الشروق في العام 2014م أي في نفس عام ظهور التنظيم. 

حظي هذا الكتاب الذي شاركني تأليفه المفكر الدكتور ناجح إبراهيم بنقاش وجدل واسع وتلقته الأوساط الفكرية بترحاب ومعالجات وعروض عديدة كشفت ذروة الاهتمام به في توقيت مبكر.

صدر الكتاب في وقت كان الشعور بالذهول والحيرة هو السائد لدى غالبية المسلمين، بجانب عدم الإلمام الكامل بهذا الوليد الحركي والتنظيمي الدموي الذي أظهر مستويات غير مسبوقة من التوحش والفعل الإكراهي الهمجي.

وجاءني على بريدي الإليكتروني بعد نشر الكتاب مباشرة على وقع الصدى الواسع وردود الأفعال المتباينة، تهديد وحكم بالردة من أحد عناصر التنظيم قائلًا عبارة لا أنساها (لقد تسربلت برداء الردة يا هشام)!

هذا المقال –الذي اخترته للعديد من الأسباب ضمن فصل عنوانه (داعش.. حالة من التخلف الفكري والحضاري) كان بعنوان ( هل بُعث المسلمون لقتال العالم بأسره)؟

وقلتُ فيه الآتي:

(أعلن الناطق باسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أبو محمد العدناني يوم 29 يونيو 2014 أول أيام شهر رمضان عن طريق تسجيل صوتي عنوانه "هذا وعد الله" عن قيام دولة الخلافة وتنصيب أبو بكر البغدادي إبراهيم عواد البدري خليفة للمسلمين.

ومنذ ذلك التاريخ وداعش في قتال متواصل وصراعات لا تنتهي على جميع الجبهات، وليس القتال فقط مع الأميركان إنما مع كل من لا يعترف بدولة الخلافة ويعلن براءته مما سواها ويهاجر إليها حيث وصفها الخليفة الجديد أنها هي دار الإسلام وما سواها ديار كفر؛ حيث قال أبو بكر البغدادى خلال خطبة ألقاها في اليوم التالي لتنصيبه: "يا أيها المسلمون في كل مكان من استطاع الهجرة إلى الدولة الإسلامية فليهاجر.. فإن الهجرة إلى دار الإسلام واجبة".

وقد كان أبو محمد العدنانى واضحًا وحاسمًا في تهديده فجميع من في ديار الكفر غير المبايعين للخليفة الجديد وداعمين لشرعيته كفار مهدوري الدم ولا كرامة – على حد وصفه عندما قال: "وننبّه المسلمين أنه بإعلان الخلافة صار واجبًا على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة إبراهيم حفظه الله وتبطل شرعيّة جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات التي يتمدد إليها سلطانه ويصلها جنده".

ثم قال: "ومن أراد شق الصف فافلقوا رأسه بالرصاص وأخرجوا ما فيه كائنًا من كان ولا كرامة.

والشواهد والتصريحات والخطب والفيديوهات والأحداث جميعها تدل على أن داعش تعلن الحرب على الجميع وعلى العالم بأسره جملة واحدة على الغرب وأميركا وإيران والشيعة وتنظيمات القاعدة غير المبايعة للبغدادي وعلى المسيحيين وغير المسلمين في المناطق التي تقع تحت سيطرتها وعلى العلمانيين والشيوعيين وحكام العرب والمسلمين غير المعترفين بشرعية داعش وزعيمها.

فهل بمقدور تنظيم مكون من خمسة عشر ألف مقاتل مواجهة العالم بأسره والقتال على هذه الجبهات جميعها في وقت واحد؟

وهل هذا النهج والسلوك يقره الإسلام ويرضاه؟

داعش يريد أن يبقى أفراده في حالة قتال مستمر لا ينتهي ولا يتوقف ويضع أهدافًا متنوعة ويفتحون جبهات مختلفة باستمرار لتظل جذوة القتال متقدة لا تنطفئ أبدًا.

فهل قاعدة ديننا الكبرى التي أقامها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم هي الجهاد الدائم المستمر والقتال الذي لا يتوقف والحروب التي لا تنتهي؟

وأين قواعد الإسلام الكبرى وأين شرائعه وأين فرائضه وأين قيمه ومفاهيمه وآدابه ونظمه وسياساته وأين غاياته الكبرى ووسائله المتنوعة لتحقيق تلك الغايات؟

الجهاد وسيلة وليس غاية مطلوبة في ذاته، فأين الوسائل الأخرى التي لجأ إليها الرسول صلى الله عليه وسلم واستخدمها صحابته الكرام رضوان الله عليهم في التعامل مع الواقع؟

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول: "ينقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

والجاهلية التي هدمها الإسلام وأنقذ البشرية منها ليست فقط عبادة الأوثان والإشراك بالله جل وعلا، لكنها منظومة متكاملة من المفاهيم والأخلاق والسلوكيات التي تناقض وتقابل الإسلام وما يستوجبه من خضوع وطاعة واستجابة لأوامر المولى جل وعلا وما يتبعه من التزام بأخلاق الإسلام ومفاهيمه الجديدة التي جاءت كلها لصالح العلم والمعرفة والثقافة والحلم والعفو والسلام والخير وتحقيق مصالح البشر الدنيوية والأخروية في مقابل نزق وجهل وجهالة وسفالة وهمجية وحمية وعصبية الجاهلية.

الجاهلية تعنى في أقوى وأهم ما تعنيه الحمية والعصبية والطيش والنزق الذي يدفع إلى القتال والثأر الذي لا يتوقف ولا ينتهي.

القتال الدائم المستمر الذي لا يتوقف ولا ينتهي من طبيعة الجاهلية وليس من طبيعة الإسلام، أما الجهاد في الإسلام فمجرد وسيلة لدفع الاعتداء والغاية هي حماية الكرامة الإنسانية وصيانة الحريات والحرمات أن تكبت وتنتهك وأن يتحقق السلام.

قبائل العرب جميعًا كانت طعام السيوف التي نادرًا ما استراحت في أغمادها، وها هو دريد بن الصمة يصف لنا ذلك الواقع الجاهلي بقوله:

وأنا للخم السيف غير نكيرة            ونلحمه حينا وليس بذى نكر

يغار علينا واترين فيشتفى              بنا إن صبنا أو تغير على وتر

قسمنا بذاك الدهر شطر بيننا           فما ينقضي إلا ونحن على شطر

فالحرب والقتال فى الواقع الجاهلي لا يتوقف ولا ينتهي ولا يهدأ.

وها هو عمرو ابن كلثوم يتفاخر في معلقته قائلًا: 

متى ننقل إلى قوم رحانا                 يكونوا في اللقاء لها طحينا

يكون ثقالها شرقي نجد                  ولهوتها قضاعة أجمعينا

نطاعن ما تراضى الناس عنا           ونضرب بالسيوف إذا غشينا

ورثنا المجد قد علمت معد               نطاعن دونه حتى يبينا

نجز رؤوسهم في غير وتر              فما يدرون ماذا يتقونا

فتأمل جيداً هنا لأن سلوك جز الرؤوس الإجرامي البشع وفصلها عن الأجساد الذي يميز أعضاء داعش اليوم يرتبط بالجاهلية وينتمي إليها ؛ حيث يقول شاعرهم الجاهلي قبل الإسلام " نجز رؤوسهم في غير وتر "؛ فجز الرؤوس وذبح البشر ونحرهم من الجاهلية وينتمي لعصبيتها الفاحشة وحميتها البغيضة، وليس من الإسلام في شيء.

وكان العربي الجاهلي قبل الإسلام مغرمًا بامتطاء الجياد وامتشاق السيوف، مُولعًا بالحرب وخوض المعارك، فان وجد عدوًا قاتله، وان لم يجد اختلق عدوًا ليظل في حرب دائمة متواصلة لا تنتهي – وهذا هو السلوك والمنهج الذي تتبعه داعش اليوم – حتى وان كان عدوًا من أهله وذويه، كما يقول قائلهم:

وأحيانًا على بكر أخينا        إذا لم نجد إلا أخانا

ومعظم إنتاج هذه الحقبة الأدبي كان تأريخا لما حدث في حروب العرب وأيامهم من ذكريات دامية مؤلمة ورثاء وفخر وهجاء ووصف لأحداث المعارك وتحريض وإثارة للضغائن والكراهية.

والشاعر زهير ابن أبى سلمى الذي يصف ذلك الواقع الجاهلي بقوله:

ومن لم يزد عن حوضه بسلاحه          يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

يعود بحكمته متأملا في آثار الحروب وويلاتها قائلًا:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم        وما هو عنها بالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة            وتضر إذ ضريتموها فتضرم

فتعرككم عرك الرحى بثقالها          وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم             كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها             قرى بالعراق من قفيز ودرهم

الحروب لا يحتاج أهل الجاهلية لتذكيرهم بويلاتها ومراراتها، فقد ذاقوا تلك المرارات وجربوا تلك الويلات، والحروب تلد الحروب فيتوارث الأجيال الثارات والكراهية والأحقاد والدماء، وتلد الحروب دائمًا الموتور الناقم الذي يتسبب في الهلاك والشؤم لقومه كأحمر عاد الذي عقر الناقة فأهلك قومه ودمرهم.

الحروب المتواصلة مناهضة للعمران والبنيان والرفاهية وسعادة البشر.. فهي تقترن دائما بالقلة والشدة والجوع والفقر ونقص الموارد والإمدادات ومتلازمة مع الدمار والخراب والأحزان والمآسي.. خاصة مع استمرارها لسنوات طويلة وهذا كله لا يتفق مهج الإسلام وفلسفته وغاياته.

اختلف الإسلام عن الجاهلية ورشد سلوك أبنائه في اتجاهات أخرى ووجه الروح القتالية التي كانت سائدة في الجاهلية إلى الجهاد في سبيل الله، وسبيل الله هو إسعاد البشرية وليس التسبب في تعاستها، وسبيل الله هو نشر التكافل والتعاون بدلًا من التناحر والتصارع الجاهلي، وسبيل الله هو السعي والنضال لكي تنال الشعوب والأمم حريتها "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَيِّ"، وليس قهر البشر وكبتهم وإكراههم على اعتناق دين بعينه.

بالفعل كان الإرث الجاهلي ثقيلًا واختلف الصحابة في مستوى التحرر منه، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما عاتب صحابته وعاب عليهم في كثير من المواقف تعلقهم بهذا الإرث وصعوبة تخلصهم منه، كما في قوله "ما بال دعوى الجاهلية" و "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم" و "إنك امرؤ فيك جاهلية".

في صلح الحديبية والفاروق عمر بن الخطاب عليم بأحوال الجاهلية إلا أنه رضي الله عنه في بداية الأمر لم يستوعب كيف يصف الله تبارك وتعالى هذا الصلح الذي راجع فيه النبي صلى الله عليه وسلم مراجعته الشهيرة بالفتح.

وهذا أمر لم يعهده عمر ولا الصحابة الكرام في شأن الحروب وتاريخ المواجهات العسكرية قبل الإسلام فسأل النبي: يا رسول الله أو فتح هو؟ فأجابه النبي الكريم الحكيم: أي والذي نفسي بيده إنه لفتح، وهذا بالرغم من أن ظاهر الصلح بشروطه التي فسرت بالمجحفة لم يكن في صالح المسلمين وقتها.

وهذا الفتح المبين يصفه الزهري بقوله: "فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضًا والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا في تلك المدة إلا دخل فيه ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر".

قال ابن هشام: "ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكة في عشرة آلاف".

في هذا الجو السلمي ازدهرت الدعوة وانتشر الإسلام، وهذا ما طلبه النبي صلى الله عليه وسلم من قريش أن توفره له ولمن معه في قوله: "وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس".

وتلك إحدى أهم المظاهر التي اختلف فيها الإسلام عن الجاهلية، لذلك بذل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم جهودًا مضاعفة لنزع هذه الرغبات القتالية والعصبية والثأرية لترشيد مواقف أصحابه وتعويدهم على نهج الإسلام وتعاليمه التي تجنح للسلم ولا تركب الحرب إلا عندما يشتد الخطب ويتعرض الإسلام ودولته لما يهدد بقاءه ووجوده أو في حال تم الاعتداء الخارجي على بلاد المسلمين.

والنبي الكريم في غزوة خيبر والمسلمون مقدمون على حرب وقتال يعطى الراية لعلى ابن أبى طالب رضي الله عنه، ويقول له وهو يسلمها له: "فوالله لأن يهدى الله بك رجلا ً واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم".

لقد ندم عمر رضي الله عنه بعد مراجعته النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في صلح الحديبية وقد علم أن الإسلام جاء بأمر مختلف تمامًا عن أمر الجاهلية.

إذا كانت فتوح الجاهلية ثارات وحروب وقتال لا ينتهي ولا يتوقف ودماء وكراهية وضغائن واستعلاء بغير الحق وفخر وخيلاء، ففتوح الإسلام صلح وخير يعم الجميع وسلام وأمن يتيح للحق والخير والهداية الفرص في الانتشار وضرب الباطل في مقتل عن طريق الحوار والعرض الموضوعي والإبداعي الشيق  والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

لقد راجع عمر رضي الله عنه النبي وندم بعد أن تأمل وقارن بين رؤية الإسلام وفلسفته وبين تاريخ الجاهلية الذي عايشه وعرفه عن قرب حق المعرفة.

لذلك قال رضي الله عنه "ينقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

وأول وأهم عُرى الإسلام أنه دين السلام والإخاء والتعايش والمحبة والرحمة للبشرية كلها كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، فإلى أي نهج ينتمي قتال داعش وفلسفتها في الحروب والنزاعات والصراعات المستمرة التي لا تتوقف ولا تهدأ؟ إلى الجاهلية أم الإسلام؟).

انتهى الاقتباس من كتابي (داعش السكين التي تذبح الإسلام)، وهو الكتاب الذي صدر في نفس عام تأسيس داعش.

[email protected]