ما فعله البوطي مع الأسد وما فعله مالك مع المنصور!

ذات مصر

طالما شبهتُ العلامة العربى السورى والداعية الاسلامى والمفكر القدير الراحل محمد سعيد رمضان البوطى، بسيرة ومسيرة الإمام مالك ابن أنس إمام دار الهجرة  أحد أعلام هذه الأمة المشهورين.
أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه ثم مالت عليه الدنيا، وباع البوطي جاه الدنيا ليتفرغ للعلم دارسًا ومعلمًا وكاتبًا ومؤلفًا، إلى أن اغتالته يد الإرهاب الأثيم، وهو يُلقي درس العلم بأحد مساجد دمشق.

الإثنان (مالك والبوطي) يتميزان بالتقوى ورجاحة العقل وسعة العلم والإخلاص للدين والوطن، ويُعد البوطي واحدًا من أهم المرجعيات الدينية السنية حيث انتشرت مؤلفاته في مختلف بقاع العالم الإسلامي ونال الدكتوراه حول (نقد المادية الجدلية)، وطرح اجتهاداته المتطورة في قضية (الجهاد) والرد الموضوعي المُعمَق على التنظيمات المتطرفة والتكفيرية التي تزعم أنها من خلال تمردها وإنقلابها المسلح، تقوم بواجب (الجهاد) ضد الأنظمة السياسية والحكومات في كتابه الهام (الجهاد في الإسلام) عام 1993م.

ومن أشهر مؤلفاته (فقه السيرة النبوية) (الحضارة الإنسانية في القرآن) (هذه مشكلاتنا) (الحب في الإسلام) (أوربا من التقنية إلى الروحانية) (شخصيات استوقفتني).. الخ.

لم يكن الإمام مالك مداهنًا يومًا لحاكم، وظل البوطى رحمه الله إلى آخر لحظة فى عمره ينصح الحاكم – سواء فى عهد حافظ الأسد أو فى عهد بشار الأسد – وكان يوجه له النقد البناء الذى ينفع المجتمع بدون دعوات تحريض ولا ترويج لفتنة.

كان البوطي رحمه الله – كما كان مالك - يبلغ علمه ولا يكتمه، وإن كان ذلك على غير هوى السلطة الحاكمة، وان خالفت رؤيته وفتاواه سياسة الدولة.

كان مالك غير راض عن ظلم الخلفاء العباسيين واغتصابهم السلطة وأخذهم البيعة بالإكراه، فقد سأل رجلًا أندلسيًا ذات مرة عن سيرة عبد الرحمن الداخل، فأجاب الأندلسى: إنه يأكل خبز الشعير ويلبس الصوف، ويجاهد فى سبيل الله، فقال مالك: ليت أن الله زين حرمنا بمثله، فنِقَم العباسيون عليه.

كان مالك لا يجيز طلاق المُكرَه، فضُرب فى ذلك، يقول ابن خلدون فى المقدمة: (ولهذا لما أفتى مالك بسقوط يَمين الإكراه أنكرها الولاة عليه، ورأوها قادحة فى يمين البيعة (أي للحاكم)، ووقع في محنة الإمام).

حدث مالك بحديث (وُضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه)، فغضب والى المدينة، وقد كان ذلك فى عهد الخليفة أبى جعفر المنصور، فدُعى مالك وحده وضربه بالسياط ومدت يداه حتى انخلع كتفاه، يقول ابن خلكان عن واقعة ضرب الامام مالك: ( فلم يزل بعد ذلك الضرب فى علو ورفعة، وكأنما كانت السياط حُليًا حُلى به).

للعلامة البوطى وللإمام مالك ابن أنس تجربتان ثريتان مع السلطة الحاكمة فى عصرهما؛ فلقد آثر البوطي رحمه الله قبل كل شئ مصلحة وطنه وأمته وشعبه ابقاءً على الجبهة الداخلية متماسكة مُوحدة، فلا يستغل العدو الخارجى ثغرة الصراعات الداخلية لاختراق الأمة والحاق الهزيمة بالأوطان وفرض سيطرته على مقدراتها – مهما كان الخلاف السياسى مع السلطة الحاكمة-، مع رؤية حكيمة وعميقة للواقع وللظروف التى كانت تمر بها الأمة خلال مرحلة الثورات وما بعدها، مستفيدًا من تجارب السابقين، مستخدمًا ما آتاه الله من حكمة وما وهبه من عقل لينظر فى مآلات الأمور ونتائجها، وهو ما أهله ليزن قراراته ومواقفه السياسية ميزانًا عادلًا يتوخى تحقيق المصالح والحفاظ على الأمة وعلى صلابتها وقوتها وهيبتها وسلامة أراضيها وشعوبها.

رغم الإيذاء البدنى الذى وصل إلى سبعين ضربة بالسوط على جسد الإمام مالك، إلا أن ذلك لم يدعُه إلى التحريض على السلطة الحاكمة والخروج عليها، فكانت رؤيته هى عدم الخروج والتمرد على من تغلب من الأئمة، وكان يرى أن المفسدة فى ظلم أولى الأمر إذا رافقه إستقرار سياسى واستتباب للأمن أخف وأهون من المفسدة التي تقترن بالعنف والخروج والتمرد المسلح، وما يصاحب ذلك وما يعقبه من قتل ودماء ومطاردات وصراعات وتضييق وفوضى وعدم إستقرار.

للشيخ البوطي  رحمه الله فتوى قديمة -لا أدري هل سمعتها من بعض الأشرطة أم قرأتها له- كانت إجابة عن حكم الطائفة العلوية، بين فيها ما هو معروف في الفقه عن الحكم على المعين ونقل من ابن تيمية أنه سُئل نفس السؤال فقال ما نصه: من اعتقد أن عليًا هو الله فقد كفر، إشارة إلى أن كثيرًا من المنتسبين إلى النحل التي تكفر أو المذاهب التي تخرج من الملة لا يعرفون تفاصيل ما ينتمون إليه من مذهب ولا يمكنون من الإطلاع إلا على ما له بريق من القيم المشتركة بين الناس فتحظى عندهم بالقبول أو يكونون هم من العامة الذين ولدوا على مذهب ما لا يعرفون دقائق منهجها ولا يتبعونه إلا تقليدا للآباء والأجداد.

وأنا لا أشك أن الرجل – أعني البوطي رحمه الله - لو ظهر له شيء من الممارسات الكفرية الواضحة أمامه من أحد من (الأسدين)– حافظ وبشار - فلم يكن يلزم السكوت حيال ذلك، لكني لا أستطيع أن أعرف أنه ناقشهما في معتقدات الطائفة أم لا، إلا أنه ذكر أنه أهدى لحافظ الأسد كتيبًا فيه ورد النووي وذكر أنه - أي حافظ-الأسد  ظل ملازمًا للقراءة منه بل وأنه يقرؤه مع أولاده في بيته "، وللبوطى كتاب عنوانه: (هذا ما قلته أمام بعض الرؤساء والملوك).

ويشهد تاريخ العلامة البوطى أنه لم يتوقف عن إسداء النصح والنقد البناء للسلطة الحاكمة منذ عام 1980م حينما ألقى كلمة جامعة دمشق فى المهرجان الخطابى أمام الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى أن قتل وهو يقوم بهذا الواجب ناصحًا الشعب والرئيس والمعارضة.
وقف الدكتور البوطى بجانب الدولة وجيشها ومؤسساتها وحرم الخروج المسلح عليها وحذر من استغلال المساجد في تلك الدعوات أو أن تكون منطلقًا لتلك الممارسات الكارثية التي من شأنها تقسيم المجتمع السوري على أساس ديني ومذهبي وإشعال القتال بين طوائفه وأبنائه؛ فقال: (لا تنقادوا وراء الدعوات المجهولة المصدر التى تعمد لاستغلال المساجد لإثارة الفتن والفوضى فى سوريا).

حذر البوطي من الدخلاء والمدسوسين الذين يقومون بدور (الأتقياء) ويتقمصون مظاهر المتدينين ليشعلوا بين الناس الفتنة الدينية فقال: (تأملت فى معظمهم ووجدت أنهم لا يعرفون شيئًا إسمه (صلاة ) والقسم الأكبر منهم لم يعرف جبينه السجود أبدًا).

هذا عينه ما اكتشفه الكثيرون لاحقًا بعد توثيق أحداث الحرب السورية ورصد المراقبين والصحفيين لممارسات هؤلاء من منظمات وكيانات مسلحة، ومنهم (ريس ارليخ) فى كتابه (داخل سوريا)؛ راصدًا أعضاء تلك المجموعات ممن لم يكن لهم إهتمام بالدين ولا بالصلاة إلا أنهم انخرطوا في التمرد المسلح ليحظوا بالإمدادات والدعم الخارجى.

لم يؤيد الإمام مالك رحمه خروج (محمد النفس الزكية) المسلح فى المدينة المنورة على أبى جعفر المنصور سنة 145 هجرية (وهو بمثابة ثورة مسلحة على السلطة كالتي حدثت ضد سلطة بشار الأسد بعد الإنتفاضة السلمية التي انطلقت من درعا)، ولزم بيته ولم يؤيد الخارجين والمتمردين ولم يدعمهم برأيه.
 

كذلك لم يؤيد الإمام مالك خروج (إبراهيم النفس الزكية) أخو محمد النفس الزكية فى البصرة فى نفس السنة، وكان مستند مالك فى عدم الخروج على الحاكم المتغلب بالقوة هو رجحان المفسدة فى الخروج، وأن الثورة والخروج على الحكام - وإن ظلموا وأجبروا الناس على البيعة وأكرهوهم على الطاعة – يفرق شمل الأمة وينشر الفوضى ويجعلها مكشوفة أمام الطامعين والمتربصين بها.
 

حدث بالفعل ما حذر منه الإمام مالك؛ فبعد خروج محمد النفس الزكية حاصر عيسى بن موسى – وهو قائد جيش أبى جعفر المنصور – المدينة، واستُبيحت مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقتل العباسيون أبناء المهاجرين والأنصار، واضطهد آل على بن أبى طالب – رضى الله عنه – وقُيدوا وجُلِبوا إلى العراق، وقضى على الخارجين والثائرين، وقتل محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم.

بدون الخوض في التفاصيل التي يعرفها الغالبية فإن تطبيق النموذج على الحالة في سوريا بعد تاريخ 2011م إلى اليوم، يدفعنا إلى تأمل موقف البوطي من الأحداث ومقارنته بموقف مالك؛ حيث تطابقت رؤيتهما الفقهية وصدق حَدَسهما وحدث ما حذرا منه.
لا يرى الإمام مالك بأسًا (كما في المدونة الكبرى) من قتال العدو تحت راية الحاكم الظالم والمتغلب بالقوة؛ يقول: (لو ترك هذا لكان ضررًا على أهل الإسلام )، - وهو نفس منهج البوطى - ولم يقف رحمه الله موقف الخصيم المعادى للسلطة الحاكمة؛ فهو رغم كل ما حدث معه من قبل والى المدينة، ورغم ما قد يُشاع بين الناس أنه يغشى السلاطين ويجالسهم ويكثر من الدخول عليهم، إلا أنه ألغى مصلحته الشخصية وآثر مصلحة أمته فى مناصحة الأمراء وبذل المشورة لهم؛ قال له أحد تلامذته يومًا: (إن الناس يستكثرون أنك تدخل على الأمراء، فقال: ان ذلك بالحِمل على نفسى وذلك أنه ربما اسْتُشِير من لا ينبغي).
هو لا يريد إذن ترك المجال وتهيئة المناخ للجهال والفساق وأرباب أرباع العقول وأصحاب المطامع والأهواء لينفردوا هم بمشورة الحاكم، ويعمل على عدم احتكار أهل الفساد للشورى لدى الأمراء.

من أمثلة نصح مالك للحكام وحثه إياهم على مصالح المسلمين ما قاله عتيق بن يعقوب: (كان مالك اذا دخل على الوالى وعظه وحثه على مصالح المسلمين، ولقد دخل يومًا على هارون الرشيد فحثه على مصالح المسلمين وقال له: لقد بلغنى أن عمر بن الخطاب كان فى فضله وقدمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور، يخرج الدخان من لحيته وقد رضى الناس منكم بدون هذا).
فى إطار هذه العلاقة المتوازنة التى أقامها الإمام مالك مع السلطة الحاكمة، والتي كان يسعى من خلالها لتحقيق مصالح الأمة، شارك فى هذه السلطة، وقبل تولى منصب الافتاء فيها، فأمر أبو جعفر أن ينادى: "ألا يفتى فى المدينة إلا مالك ابن أنس وابن أبى ذئب"، بل استحدث له أبو جعفر المنصور – بعد اعتذاره له عما حدث فى المحنة وبعد أن أخبره أن من فعل ذلك نال أشد العقاب – استحدث له منصبًا جديدًا، يكون مالك  بمقتضاه الرجل الثانى فى الخلافة؛ فهذا المنصب الهام يخوله محاسبة جميع ولاة الحجاز وقضاتها، وهكذا حظى هذا العالم الجليل بمنصبين فى غاية الأهمية فى الدولة، وحظى قبل ذلك باحترام الجميع وعلى رأسهم الخليفة – وهو رأس السلطة الحاكمة – الذي كان يبالغ فى توقير واحترام ذلك العالم الجليل المهيب؛ فلا يكاد يراه حتى يناديه: "الى ههنا يا أبا عبدالله، أنت حقيق بكل خير وإكرام".
رحم الله مالكًا والبوطى؛ فقد كان كل منهما فقيهًا مجتهدًا تقيًا ورعًا مخلصًا لدينه ودعوته، محبًا لوطنه وأمته، حريصًا عليهما، مقدمًا مصلحة أمته على غيرها وان كانت مصلحته الشخصية أو مصلحة تيار أو جماعة.

[email protected]