هشام النجار يكتب: البوطي والقرضاوي.. خصمان اختصموا في ربهم

ذات مصر

فى فيديو على اليوتيوب يقف الشيخ الشهيد محمد سعيد رمضان البوطى رحمة الله الذي تحل ذكرى رحيله هذه الأيام على منبر أحد المساجد فى دمشق باكيًا، دموعه تنهمر تسابق كلماته المشحونة بالغضب والخوف والحرص على مستقبل ومصير أبناء سوريا وعلى مستقبل وطنه.

كل ما كان يخشاه البوطى قبل مقتله على يد جماعات الإرهاب ويستشرفه ببصيرته هو أن تنقسم سوريا وتغرق فى بحار الفوضى والاحتراب الأهلى أو الطائفى – وقد حدث ما كان يخشاه ويحرص على ألا يقع -، وهو ما كرره مرارًا على مريديه وتلامذته وجمهوره فى الفضائيات وفى المساجد؛ فهو لا يعنيه الحاكم ولا يدافع عن كرسى رئيس أو زعيم مهما بلغ جاهه وسلطانه، إنما يعنيه الوطن ومصير ومستقبل الدولة ومواطنيها.

بكى البوطى كما لم يبكِ من قبل وأبكى مستمعيه وجعل يدعو الله تعالى وكأنه كان يرى أمامه مصير التشرذم واللجوء إلى دول العالم شرقيها وغربيها، فدعا الله لإعادة نعمة الأمن والسلام إلى شعوبنا والى شعب سوريا الحبيب، مرددًا فى دعاء يهز القلوب والوجدان يقول وجمهور المسجد يجأر وراءه الى الله بأصوات امتزج فيها الأنين بالصراخ والوجع:
(أعدها فرحة تدخل الى أطفال المسلمين، أعدها فرحة تدخل الى قلوب النساء الثكالى، أعدها فرحة تدخل الى أفئدة الأسر التى شردت من بيوتها ومنازلها يا رب العالمين، نسألك بالرحمة التى أودعتها فى قلوب الآباء والأمهات لا تقسو علينا.. نسألك بالرحمة التى أودعتها فى البهائم على صغارها، والتى يتعامل بها عبادك من الإنس والجن فى هذه الدنيا وبرحماتك الأخرى التى أعددتها لعبادك يوم الحشر أن تعجل برحمتك لنا، أن تعجل بازهاق هذه الشدة، أن تعجل الفرج).

على منبر آخر يجلس الشيخ الراحل يوسف القرضاوى (الرئيس السابق لإتحاد علماء المسلمين) المرتبط بجماعة الإخوان فى مسجد بمقر اقامته الدائم فى قطر، ليس باكيًا، إنما معلقًا على مقتل الشيخ البوطى فى مسجده بسوريا أثناء إلقائه درسه الأسبوعى وسط أهوال الحرب، محاولًا نفى التهمة عن نفسه وعن مهووسى فتاويه والصاقها بنظام الأسد.

زعم الشيخ القرضاوي حينها أن (الأسد يتخلص من رجاله)! بينما التحقيقات والشواهد أشارت الى تنظيم القاعدة وجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حاليًا) التى اعترف بعض أعضائها بارتكاب جريمة اغتيال الشيخ البوطى فى مسجده.

قبلها كان الشيخ القرضاوى قد أطلق فتوى من خلال قناة الجزيرة القطرية ضمن فتاويه الكثيرة ب (إباحة استهداف كل أعوان نظام بشار الأسد من جند وضباط وعلماء وسلطة وجيش .. الخ " ، 
في برنامج (الشريعة والحياة) الذي تبثه قناة الجزيرة، إجابة القرضاوى على سؤال لأحد المشاهدين حول جواز استهداف من يؤيد النظام السوري وعلى رأسهم علماء السلطة؟ فأجاب قائلًا: (إن الذين يعملون مع السلطة يجب أن نقاتلهم جميعًا، عسكريون مدنيون، علماء وجاهلون، وأن من لا يحارب هذه السلطة الجائرة الظالمة والمتجبرة في الأرض التي قتلت الناس بغير حق، هو ظالم مثلها يأخذ حكمها، فكل من يقاتل عليه أن يقاتل هؤلاء).

ليست القضية فقط فى التحريض والتسبب فى مقتل عالم كبير ولو أنها كارثة ومصيبة كبرى، خاصة اذا كان عالمًا ومفكرًا وفقيهًا وفيلسوفًا بحجم البوطى رحمه الله الذى كان علامة الشام بلا منازع، انما الكارثة الأكبر هى التسبب والإسهام فى اضاعة شعب بأكمله بفتاوى من فوق منابر المساجد وبكلمات جامدة باردة خالية من المشاعر والعطف والشفقة والحرص على مصالح الأوطان وعلى مستقبل أمة العرب ومستقبل الاسلام، مسلوب ومنزوع منها كل منطق عقلانى حريص على مستقبل ومصائر الشعوب والأمم والحضارات.

طبيعة الواقع وتحدياته وطبيعة الشباب حين يغلبه حب الدين والحماسة له لينطلق ساعيًا لاحقاق الحق كله جملة واحدة وتطبيق كل شيء فى واقع صعب وعسير، قد تنسيه الحماسة التعامل مع النصوص الدينية ومع الواقع فيغفل فقه المصالح وحساب المفاسد وفقه المآلات وفقه القدرة والاستطاعة وفقه الضروريات.

ورحم الله عبدالله ابن عباس رضي الله عنه حين علمنا وعلم أهل الفتيا والاجتهاد فى كل عصر أن يتفرسوا فى حال مستفتيهم وأن يحسبوا أثر فتواهم على أرض الواقع، فالمفتى موقع عن رب العالمين وناطق باسم شريعته، ولا يقبل العقل ابتداءًا فرضية أن  الشريعة تدعو لبث الفوضى ونشر الفتن وتفتيت وتمزيق أوصال الأمة وأوطانها.

فقد جاء رجل الى عبدالله ابن عباس رضى الله عنه وسأله قائلًا: هل للقاتل توبة؟ فقال: لا! ورغم أن باب التوبة مفتوح لجميع الذنوب كبيرها وصغيرها، إلا أن ابن عباس رضى الله عنه تفرس فى وجه الرجل فرأى الغضب باديًا فى وجهه والشرر يتطاير فى عينيه، فعلم أنه ما جاء سائلًا عن عفو الله وعن قبوله لتوبة عباده، إنما جاء يلتمس رخصة للقتل وذريعة لسفك الدم بغير حق خلف ستار فتوى تتيح له التوبة بعد ارتكاب جريمته.

قال له العالم الجليل رضى الله عنه بما يناسب حاله ومقصده وبما يدرأ حدوث مفسدة عظيمة باسم الدين وباسم فتوى ابن عباس رضى الله عنه.

على نفس النهج سار التابعى الجليل أبو مجلز السدوسى؛ فقد جاء نفر من قومه من الخوارج الإباضية يسألونه عن حكام بنى أمية، ويريدون بذلك أن ينتزعوا منه فتوى تبرر لهم الخروج على أولئك الحكام فأفتاهم أبو مجلز بما يناسب حالهم وبما يدرأ عن المسلمين مفاسد محققة كانت ستحدث على أيديهم.

روى الطبرى عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناس من بنى عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز أرأيت قول الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: أفيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال إنما نزلت فى اليهود والنصارى وأهل الشرك! مع علمه بأن الآية عامة، ولكنه "قصر مدلولها على أهل الكتاب فى معرض رده على أسئلة الخوارج وقد كانوا يريدون من فتواه لهم أن تكون تكأة لتبرير الخروج على حكام بنى أمية بعد تكفيرهم".

بل إن القرضاوى نفسه في كتابه (من فقه الدولة في الإسلام) يقول: (إن السبب يكمن فى خوفهم من مسارعة بعض الناس الى إتهام الأمراء والحكام بالكفر الأكبر بكل جور يحدث، ولو كان سببه الهوى والمحاباة ونحو ذلك مما لا يكاد يسلم منه أمير أو حاكم إلا من عصم ربك وقليل ما هم).

وضح أن كلام الدكتور القرضاوى فى كتبه ودراساته وأبحاثه شيء ومواقفه وتصريحاته وفتاواه المرتبطة بالواقع والمتعلقة بالأحداث شئ آخر، فلا حرص على فقه المصالح ولا واقعية فى الخيارات ولا نظر فى فقه المآلات، ولا تقديم لمصالح الأمة على مصالح الأحزاب والجماعات الضيقة، وهذا هو الفارق بينه وبين البوطى، كما أخبر البوطى بنفسه عندما ووجه بهجوم القرضاوى عليه، حيث دعاه البوطى لمراجعة نفسه وتقديم مصلحة الأمة على مصلحة جماعة الإخوان وتقديم مصلحة سوريا على مصلحة جماعته وتنظيمه.

إلى جانب عقل المفكر كانت عاطفة الأب الجياشة الحميمة فلم يعهد الناس أن يروا البوطى، ذلك الرجل العقلانى الرصين بهذه العاطفية المفرطة، وعندما سألوه عن بكائه الشديد قال: (شأنى كشأن رجل له أهل وأطفال وأولاد يتركهم إلى حيث لا يعرف مصيرهم)!
هكذا تعامل البوطى مع وطنه سوريا بعاطفة الأبوة وبمنهج وسلوك رجل يشعر بالمسؤولية تجاه وطنه وشعبه يخشى عليهم الفرقة والانقسام وتبعات التكفير والكراهية والقتل، فلا يتمزق ولا يضيع ولا ينهار.

وقد وافق قول البوطى فعله وكانت مواقفه العملية ترجمة لكلامه ومحاضراته وكتبه، فلم يهرب من سوريا ولم يعمد إلى تهريب أمواله ومدخراته الى الخارج لتأمين مستقبله ومستقبل عائلته ولم يعمد لتهريب أبنائه وحجز أفخر الأماكن لإقامتهم، وكان يستطيع ذلك لو أراد، لكنه بقى ليواجه مع الشعب السورى مصيره وظل حتى اللحظة الأخيرة فى حياته يوقظ وعى شعبه بالفكر الإسلامى المستنير ويُسدى نصائحه للحاكم والسلطة، تمامًا كحاله الأول فى بداية اشتباكه مع الشأن السياسى فى بداية الثمانينات منذ ألقى كلمة جامعة دمشق أمام حافظ الأسد.

استُشهد الشيخ البوطى على الكرسى الذى يلقى من فوقه درسه الأسبوعى فى شمال دمشق، بيد أحد أعضاء واحدة من الميليشيات الموكولة بتمزيق الوطن وتقسيمه وتفتيته، فقد تمزق جسد البوطى بسكين من سعى لتمزيق سوريا، فيما غيره واصل التحريض وإصدار الفتاوى التدميرية، وقد أحكم التأمين على نفسه وأمواله وعائلته بعيدًا عن مآسى الشعوب وجراحاتهم وعذاباتهم المضنية.

البوطى الذى حل فى المرتبة رقم 22 ضمن الشخصيات الإسلامية الأكثر تأثيرًا فى العالم، كما جاء في دراسة لباحثين دوليين ضمن كتاب بعنوان (أكثر 500 شخصية مسلمة تأثيرًا لعام 2009م)، ونال شخصية العالم الإسلامى فى الدورة ال 18 لجائزة دبى الدولية للقرآن الكريم، كان قد اكتسب تأثيره فى جمهوره ومريديه فى سوريا وخارجها من عقلانيته المستنيرة وقدرته الفائقة على الجدل الموضوعي العميق وتفاعله الناضج الراشد مع الواقع ومعطياته ومتغيراته.

نادرًا ما قام البوطي بتوظيف عاطفته أو قدرته على التنبؤ وترقب القادم والمعجزات ، لكنه فى هذه الحالة فقط تنبأ – وتلك هى المرة الوحيدة فى حياته - وأعلن على الملأ تنبؤاته قبل وفاته واستشهاده، حيث أبلغ الحكومة السورية والشعب السورى فقال فى بيان نادر: (أقول للحكومة السورية والشعب السورى اتقوا الله، فسوريا ستظللها غمامة سوداء مدلهمة، ولكن أبشركم فعقبى هذا الى خير ان شاء الله تعالى على سوريا وشعب سوريا ".

لا يرى تلك الرؤى ولا يتمنى تلك الأمنيات من يراهن على تيارات وجماعات وتنظيمات وميليشيات مسلحة متمردة، ومن يظل يضع أمله فقط أن يصل هذا الشخص أو ذلك الحزب أو تلك الجماعة الى كراسى الحكم، فهذا هو فقط منتهى أمله وغاية طموحاته وأعظم ما يتمناه، وان سقطت فى سبيل ذلك الدول وان قتلت وتشردت ونزحت الشعوب ودمرت الأوطان، إنما يرى ما رآه البوطى من رهن نفسه للعلم وخدمة الدين جاعلًا جهوده وعلمه وفكره اسهامًا فى نهضة الأوطان ووحدتها.

وهذا هو الفارق بين عالم الدين المستقل المتجرد لقضايا دينه وأمته ووطنه، وآخر ينحاز لتنظيمه ومصالح تياره وجماعته المحدودة الضيقة.

فارق كبير جدًا بين البوطي الذي حرص على أن يظل الإسلام بعيدًا عن ملوثات السياسة وسقطات وهزائم الأحزاب والجماعات، ورجل أدخل تياره وما يمثله فى مأزق تاريخى غير مسبوق، بل انتقص مكانة الإسلام بادخاله فى معارك وصراعات لا تخصه وليس مسؤولًا عن اخفاقات الجماعات والتنظيمات فيها، فأدى ذلك الى تقليص سلطان الإسلام الروحى والدعوى بعد الترويج بأنه سقط سياسيًا وحزبيًا على يد جماعة أو تنظيم.
هذا هو الذى لم يقبله البوطى ابتداءًا؛ عندما عرض عليه إنشاء حزب سياسي على أن يترأس كتلة إسلامية داخل (الجبهة الوطنية التقدمية) فى سوريا فرفض بشدة، واعتبر ذلك اقرارًا منه أن (الاسلام قد تقاسم مع أعضاء الجبهة النفوذ والسلطان فى القطر، ومعنى ذلك أنه قد فاز بنصيب الخمس أو السدس، وأن علاقة الإسلام مع بقية أعضاء الجبهة قد غدت علاقة تنافس سياسى، وهذا تقليص لسلطان الإسلام وتحجيم له بل سعى للقضاء عليه).

[email protected]