هشام الحمامي يكتب: عرابي.. والتاريخ المخفي لدرس عظيم

ذات مصر

 

في 22 يوليو 1882 م عُقِد اجتماع في وزارة الداخلية المصرية (وقتها) حضره نحو خمسمائة فرد من أعيان الأمة المصرية .. يتقدمهم شيخ الأزهر (الشيخ شمس الدين الإنبابى /ت 1896م) وقاضي قضاة مصر ومفتيها، ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط، (البابا كيرلس الخامس ت/1929م) وحاخام اليهود والنواب والقضاة، والمفتشون، ومديرو المديريات، وكبار الأعيان، وكثير من العمد، فضلا عن عدد من الأسرة العلوية على رأسهم جدة الخديوي توفيق نفسه .. أم الخديوي إسماعيل، رحمهم الله جميعا. 

في هذا الاجتماع أقر المجتمعون بمروق الخديوي عن الدين، لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده. 

 وبعد مداولة الرأي أصدرت الجمعية قرارها بعدم عزل عرابي عن منصبه.. وهو القرار الذي كان الخديوي توفيق قد أصدره.. ووقف أوامر الخديوي ونظّاره، وعدم تنفيذها، لخروجه عن الشرع الحنيف والقانون المنيف... 

***

لم يتوقف كثير من مؤرخينا ولا مثقفينا ولا سياسيينا عند هذا (الاجتماع) الذى لم يكن مجرد تجمع لمجرد أفراد ..فى مجرد مناسبة عابرة .. أنت تتحدث هنا عن ساعة من أخطر ساعات التاريخ الحديث لمصرنا الحبيبة، ويحق لها أن توصف بذلك ..

 لندرك أن التاريخ ليس هو ذاك ما يصنعه الرجال الكبار فقط، بل هو ما تحتمه مجموعة كبيرة من الأسباب والتفاصيل في تراكمها..

إن يكن من أمر فقد اجتمع كل هؤلاء.. اجتمعوا على هدف واضح ومحدد، يرونه ويرون الحق فيه، وقرب شروق شمس هذا الحق الذى آن أوانه، هؤلاء المجتمعون لا يمكن اعتبارهم بالمغررين ولا اتهامهم بالطائشين ..!! 

وأتصور أن هذا الاجتماع الفريد لكل قوى الأمة .. لابد أن يكون درسا حاضرا معنا على الدوام.. درسا دائم التكرار والاعتبار في ثقافة المصريين السياسية كل وقت وكل يوم .

 فلم يحدث التقاء بقوة هذا التلاقي من بعد معاهدة 1840 م تقريبا.. المعاهدة التي فرضت (طوقا حديديا) على مصر والمصريين، كى لا تكون لمصر الكلمة الأولى في الشرق الإسلامي ..                        وهي الكلمة التي عرف الغرب طويلا مداها وصداها أبد الدهر، حفاظا على الأمة والدين والحضارة.

***

سيستمر هذا الطوق طويلا .. طويلا .. وسنسمع من الزعيم الخالد(ت1970م) أروع الشعارات حول فكرة (الاستقلال) وسيكون هو ومن جاءوا معه سنة 1952م وبعد انتهاء ثورات مصر الحقيقية لرفع هذا الطوق .. 

سيكونون هم أكثر الساسة والقادة وعيا بقصة هذا (الطوق) وما عليك سوى نزع غلاف (السوليفان) الثورى القومي اللامع البراق، ذو الصخب الهادر، في إهدار كل حق للأمة.

وستجد أن أخطر القرارات السياسية والاستراتيجية تم اتخاذها، وستكون دائما في نطاق هذا الطوق، والتسليم له وبه.. والذى سيكون الإقرار به، أحد أهم خفايا (السياسة والسلطة) في تاريخ مصر الحديث .. 

***

لازلنا عند الساعة التي ستتوالى بعدها أخطر الساعات.. لازلنا في الاجتماع الذى اجتمعت فيه وله (الأمة المصرية).. مصر المصريين .. وسندرك بكل معنى واعتبار، أن المناخ السياسي العام فى البلاد وقتها كان متهيئا تماما ..لقبول تحرك كبير وشامل ضد  الأوضاع القائمة ، بل ومستعد للخطوة الأهم .. خطوة ما بعد هذا التحرك.

وعلى الرغم من خطورة ما أسفرت عنه معركة التل الكبير التي كانت معركة رشيد 1807م (البروفة) التاريخية الفاشلة لها ..إلا أننا سنجد أن دارسي التاريخ الحديث ، لم يولوها الاهتمام الذى يتناسب و أثارها العميقة .. 

بما قد يشير الى أنه حتى (الدراسات التاريخية) التي تأخذ بريقا وتسطع، يكون هذا البريق والسطوع، له كواليس ذات أضواء هنا وظلال هناك ..

وسيلفت نظرك مثلا أن دراسة معينة على فترة محددة (محمد على باشا مثلا) والتى يكاد يكون أكثرها (توارد خواطر) يلتف حولها الإعلام ويتكاثف، حتى أنك لتسأل مستريبا (ماذا هناك؟).  

على الرغم من أن خيط التاريخ الممدود عبر لحظة (التل الكبير) لازال واصلا إلى حمديتى والبرهان، مثلا، في السودان الشقيق .. في أدنى صورة لما يمكن أن يكون عليه التاريخ، وصلا واتصالا بهذه اللحظة.                        

وآه.. ممن يبحثون عن الحلول المثلى في مناطق، وعن المثل العليا في مناطق أخرى.

***

وسيبقى مجال (الدراسات التاريخية والاجتماعية) ملفا خطيرا للغاية ومحكوما للغاية، ومضبوطا للغاية. 

وسأضطر هنا الى التوقف السريع، عند هذا التجاهل الرهيب، لأخطر تصريحات قالها عالم من أهم أخطر وأكبر علماء السياسة في العصر الحديث إنه دكتور حامد ربيع (ت1989م) تصريحات تتعلق بتقسيم مصر.. العصية على كل تقسيم عبر كل تاريخ ..                                                        

وتتعلق بالسيطرة الممنهجة للطائفة العلوية على سوريا سيطرة عقائدية ومذهبية صارخة ..          

وتتعلق بتحويل وجهة (الإصلاح الإسلامي) إلى حالة صراعية دامية مع أجهزة السلطة في مشهد إغريقي يبعث على كل البكائيات..لأخذه بعيدا عن عمقه الاجتماعي حيث قوته الحضارية الضاربة ..   

***

وعودة إلى عرابى والذى إذا كان قد قدر له النصر في عام‏1882‏ م كما انتصر المصريين من قبل علي الغزوة الإنجليزية (فريزر 1807م ).. لتغير ميزان القوي في المنطقة العربية والشرق الإسلامي كله..‏  

إنهم لا يملكون الجرأة لحرقي ولكنهم سيجهزون الحطب والثقاب..                                        

هذا ما سيقوله لنا عن من تناولوا احمد عرابى..المفكر والشاعر والمؤرخ ا/ محمود الخفيف ت/1961م (أحد أساتذة المستشار طارق البشرى رحمه الله فى المدرسة الإبراهيمية الثانوية) فى كتابا إلهام (أحمد عرابي الزعيم المفتري علية) نشرته دار الرسالة سنة 1947.                                                                                            

وسيستحضر لنا فيه المشهد النضالي، الذي خاضه عرابي ضد الإنجليز، وضد الخديوي توفيق، والمعارك التي خاضها في كفر الدوار منتصرا، و الهزيمة المرة في التل الكبير التي جسدت الخيانة تجسيدا كما يقول، وفي تحويلِ رحى الحرب من النصر إلى الهزيمة، وكيف تٌؤسر الزعامة بين قضبان الخيانة..  

يقول: مهما يكن في الأمر، فما أحسب أن في الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة، وداعية فكرة، وأنه أخطأ أو أصاب ..                 

وكان مخلصاً فيما يفعل أو يقول، وأنه قبل ذلك كله وفوق ذلك كله كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة، خرج من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر..رافعا راية قضية من القضايا الوطنية الكبرى.     

***

سيزداد الأمر وضوحا في وعينا حين نقرأ للأستاذ العقاد(ت1964م) في مجلة الرسالة العدد ..779سنة 1948م عن الكتاب وكاتبه ، مؤكدا ما ذهب إليه الأستاذ محمود الخفيف قائلا : (ومما لا شك فيه أن زعيم الثورة المصرية في القرن التاسع عشر قد أصاب وأخطأ، وقد نجح وأخفق وقد أحسن وأساء.            

ولكنه لم يكن قط خائناً، متواطئا مع الإنجليز على مصلحة وطنه، كما افترى عليه خصومه .. وإنما خانه التوفيق كما خانه بعض أعوانه ..) .. 

***

كان واضحا أن الرجل تعرض لحالة من (الصدمة) بعد موقعة التل الكبير وخيانات الثقات..أسفرت عن ما أسفرت عنه من تدهور فى كل خطوة خطاها بعدها ..

لكن الرجل في النهاية كان قائدا لثورة .. وزعيما لأمة.. أمينا على مصالحها ومستقبلها ..                                     خانه التوفيق، وخانه بعض من حوله، ولا تنسى خيانة الأيام والليالي..         

لكنه بقى، وسيبقى في وعى المصريين، قائدا كبيرا وزعيما ملهما..ونذكره اليوم في ذكرى وفاته 21 سبتمبر 1911م ...                                                          ويكفى أن نعلم أن (وثيقة واحدة) من وثائق تلك الفترة التي كان نجمها البازغ، والتي أفرجت عنها أجهزة (المخابرات البريطانية) لم تتناوله من قريب أو بعيد، بتواطؤ أو تآمر ضد بلاده وجيش بلاده .. كما أتهمه من اتهمه زورا .. 

وكما سمعنا بعدها عن (غيره) ..ممن أكثروها صياحا وصخبا عن الوطن والشعب والتاريخ.