هشام الحمامي يكتب: ما كنا نرجوه من (الزعيم)

ذات مصر

مات الزعيم الصيني الشهير ماو تسى تنج (1976م) كما يموت كل الناس، وأصاب وأخطأ في رحلة حياته كما يصيب ويخطئ كل الناس، لكن الصينيين حين يذكر (ماو) يذكرونه بأربعة أشياء لا تٌنسى، كما قال لنا الأديب الفرنسي أندريه موروا (ت/1967م) عنه في كتابه المشهور (المذكرات المضادة).

ما هي هذه الأشياء الأربعة؟ "محو الأمية / إنهاء عهد المجاعات / القضاء على الذباب/ ممارسة الرياضة".. طبعا هناك الكثير والكثير مما يٌقال ويٌكتب عن (ماو) كأحد أهم شخصيات القرن العشرين .. لكن المعنى هنا واضح في تحديد هذه الأشياء الأربعة بالذات لارتباطها أولا بما هو شخصي لدى المواطن الصيني.. ولتأثير هذا الذى هو(شخصي) على عموم الحياة للأمة الصينية.

***

سننتقل خطوة قبل أخيرة إلى الموضوع ونذكر وصف العلامة الراحل أ.د/ حامد ربيع(ت/1989م) رحمه الله لـ (هرم الدولة الديمقراطية) ذو المكونات الثلاث: (القمة) وتحوى السلطات الثلاث: تشريعية وتنفيذية وقضائية.. (المنتصف) ويحوى الأحزاب والنقابات والمؤسسات.. (القاعدة) وهى المكون الأكثر أهمية حيث الجمعيات الأهلية والتعاونيات والمحليات. 

***

ولو لم يفعل الرئيس عبد الناصر لبلاده وشعبه شيئا غير التأسيس الصلب والراسخ لهذا الهرم (الرابع)، وبما يستحيل على من يأتي بعده أن يهدمه و يتلاعب به .. لو لم يفعل في مدة حكمه وسيطرته التامة على البلاد من 1954 إلى 1970 م غير ذلك، لكان الناس كلهم، محبيه ومبغضيه، يذكرونه بما لا يمكن أن يكون إلا في صالحه و وصالح سيرته وتاريخه..

بل وكان قد جنب العالم العربى كله هذا المصير الذي يعيشه الأن والذى نتج عن الحكم الفردى المستبد (سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان ...) كل تلك البلدان تدفع الأن أسوأ وأغلى الأثمان نتيجة لما رسخه (الزعيم) في وعيهم عن الحاكم الذى تخافه الناس وتهابه وترتعد أوصالها حين يذكر اسمه.

***

ويكثر التساؤل حول الأغراض العميقة للزعيم الخالد في إقصاء فكرة (دولة المؤسسات) وإحلالها بفكرة (دولة الأشخاص)..؟؟ ومعروف بالطبع كيف فرغ (نظام ناصر) الوطن من الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية.. فرغها تماما من محتواها الحقيقى: رجالا وأفكارا.

وأحل محلها هياكل كرتونيه لا تعرف إلا الولاء للنظام، من داخل التنظيمات السرية، التي انتشرت في كل مكان والتي كان (التنظيم الطليعى) تطورها الطبيعي نحو التجسيد التام لــ(العبودية السياسية المطلقة).

***

وهو ما سيأخذ السؤال (سؤال دولة المؤسسات الراسخة) إلى مسافة أقرب قليلا من شخصية الزعيم نفسه، فهو حتى وإن كان قد حقق لنفسه تلك المكانة(البطريركية) المحصنة من السؤال والمراجعة ..إلا أنه لم يكن يأمن إلى أي مدى ، وعلى أى حال سيستمر ذلك ويكون؟

وهو الزعيم الذى لم يكن يحتمل خلافا في الرأي حتى من أقرب الناس إليه ، باستثناء المشير عامر(ت/1967م) طبعا قبل التخلص منه، ليس فقط لصداقتهما العميقة وقتها ولكن ، وهو الأهم ، لسيطرته التامة على القوات المسلحة..

ومعروف تحديد إقامته لزميلة ورفيقه في النضال في مجلس قيادة الثورة كمال الدين حسين(ت/1999م) حين انتقد بعض قراراته (حرب اليمن)، بل وفصل كل من له قرابة به من الوظائف العامة وأحال ابنه الملازم مصطفى ضابط المدفعية إلى الاستيداع. 

***

النوازع (الانتقامية الشرسة) تتنافى تماما مع قصة (الزعامة الكبرى) التي تتسم بالترفع عن استخدام سيف الظلم للنيل من الخصوم.. سيحكى لنا خالد محى الدين في مذكراته (الأن أتكلم) عن موقف(انتقامى) أخر مع أحد زملاؤه في سلاح الفرسان، والذي كان خالد ينظر اليه بإعجاب وتقدير شديد، لمواهبه الشخصية، وقوة وثبات مبادئه.           

(الصاغ احمد المصري).. والذى كما يصفه أ/ خالد: كان من أوائل الطلائع التى شكلت تنظيم الضباط الأحرار، والرجل الذى كان موعود بمصير مجيد، لو صارت الأمور كما ينبغى لها، كان ذو شخصية مستقلة وقيادية، ويؤمن إيمانا عميقا بالديمقراطية، وأنها السبيل الأفضل من اجل مصر وشعبها.

الصاغ أحمد المصرى كان له موقف عظيم مع الزعيم الخالد حين زارهم في (سلاح الفرسان) في اجتماعهم المغلق الشهير.. اللقاء المعروف باجتماع (الميس الأخضر)، وتحدث (الصاغ أحمد المصري) بقوة وبلاغة تركت أثرا شديدا عند (ناصر)وهو ما سيكون له أثر بالغ السوء على الرجل بعدها.

***

ويكمل الأستاذ خالد: وتحولت النقاشات إلى جلسة استجوابات عاصفة، وزاد الحديث عن المصروفات السرية، والتصرفات الشخصية السفيهة لصلاح وجمال سالم.. وحوصر جمال بالاتهامات، وقال: أنا شخصيا أتحدى أن ينسب إلى أي إنسان أي تصرف غير نزيه ، ورد احمد المصري: لكنك مسئول عن كل تصرف خاطئ يرتكبه أي واحد منهم. 

وأخذ النقاش منحى انتقادي شديد عن نهب أموال ومقتنيات أسرة محمد على (كل هذا فى سنتين من 52 لــ 54) ونقل بعضها لمنازل بعض الضباط، وحملات الاعتقالات الواسعة ضد الإخوان والشيوعيين.                 

وهنا وقعت حادثة صغيرة تركت آثرا شديدا فى نفس جمال كما يقول خالد .. إذ تعالت أصوات الإنذار من دبابات متحركة وبدا هدير الدبابات يهز المكان، وانتاب عبد الناصر الفزع، وسقطت السيجارة من يده، ونظر إلى أحمد المصري نظرة تساؤل و(خوف) ..

فقال له المصري: إنها دبابات عائده من خدمة الطوارئ، وأرجوك أن تطمئن تماما، فأنت هنا فى بيتك..

يقول خالد: وبالرغم من حديث( أحمد المصري) المفعم بالصدق ، فقد احتفظ جمال بهذا الموقف في نفسه، ولفترة طويلة، وعندما انتهت (عاصفة مارس 1954م) بدأت مرحلة( الانتقام).

***

بعد مرور عشرين عاما على ثورة يوليو وسنة 1972م كتب الأستاذ توفيق الحكيم(ت/1987م) كتابة الشهير (عودة الوعى) يقدم فيه اعتذارا إلى قرائه وإلى نفسه والى التاريخ.. من تأييده(الزعيم الخالد).. الرجل الذى جر على وطنه وشعبه أسوأ الكوارث والنكبات.. كما وصفه.

وانهالت على الرجل بعد صدور كتابه أبشع الاتهامات والشتائم من كهنة المعبد وسدنته.. هؤلاء الذين لم يتعرضوا لصلب وقائع الكتاب ظنا منهم أن التجريح الشخصي يمكن أن يخفى حقيقة الوقائع.. كما قال لهم الكاتب..

غير أن الحقائق لابد أن تتكشف يوما ما، لأنها تمس الوطن والشعب بل والأمة كلها ..وقد كان رد توفيق الحكيم على من هاجموه متسائلين عن سبب سكوته وقت حدوثها.. بأنهم يعلمون علم اليقين السبب فى ذلك..فقد كانت معارضة (الزعيم) تكلف الإنسان حياته، وحياة أولاده، وكل من يتصل به.

***

اكثر من نصف قرن مرت اليوم على وفاة (الزعيم) الذى ترك أثرا عميقا للغاية، وأليما للغاية، ومدمرا للغاية، في مسألة من أهم وأخطر مسائل الأمة المصرية والعربية .. مسألة (السلطة والحكم).. 

ولأن نيته في كل ما قام به لم تكن أبدا صادقة ولا خالصة، للأمة والشعب والتاريخ.. فلم يتبق منه، ولم يترك أثرا، سوى حكايات تحكى على سبيل التسلية الخادعة .. وما أسوأها (تسلية).. وكل من أتى بعده، أصر على أن يكون (مثله).. وما أسوأ المثل ،وما أسوأ الممثول.