علي الصاوي يكتب: سقط الجميع وبقيت غزة

ذات مصر

الحق في الحرية لا يقل قيمة عن الحق في الحياة، كلاهما رئة ثالثة لكل إنسان صاحب قضية عادلة في مواصلة نضاله المستحق ضد كل عابث بأرضه ومقدساته، وإذا فقد الإنسان أبسط حق له في الحياة وهو الدفاع عن نفسه وأرضه ضد كل معتدٍ أثيم، حينئذ تكون باطن الأرض خير له من ظاهرها، وأهلنا في غزة يدفعون ثمن هذا الحق في الدفاع عن أرضهم ومسرى نبيهم، حلّقوا عليهم وجوعوهم وقتلوهم حتى بات قتلهم مدعاة للفخر والتسلية عند جنود الاحتلال، ومصمصة شفايف وحوقلة عند إخوانهم من العرب والمسلمين، مشهد هزلي سقط فيه الجميع إلا صاحب الحق وقف شامخاً رغم الألم، ضحية الفُجر الصهيوني والصمت العربي العاجز.

إنهم يؤدبوننا بغزة كما أدبونا من قبل بالسوريين، أن القتل والتهجير مصير من يفكر مجرد التفكير أن يُعبّر عن تعاطفه أو رأيه ويدفع عن إخوانه الظلم، ستُدفَنون مثلهم ولن تذوقوا طعم الراحة وينهار اقتصادكم، إن تجرأتهم وهتفت حناجركم بوقف العدوان ونيل الحرية، فأنتم شعوب غير ناضجة لم تُفطموا بعد، ومن وراء هؤلاء نخبة من حملة المباخر من المنجمين والآفاقين والمنتفعين، مِن الذين يأكلون بالقلم ويخونون بالكلمة، مَن يخطبون في الناس على منابرهم الإعلامية خبطة إبليس في أهل النار، لا تلومونا ولكن لوموا أنفسكم إن فكرتم وهمستم ببنت شفة اعتراضا على أوضاعكم، استوصوا بأنفسكم خيرا وإلا لن تجدوا رغيف الخبز ولا رشفة الماء، يرهبونهم بضياع المستقبل وتهوين أمر ما يحدث من إبادة جماعية لأهلنا في غزة، فلماذا يؤدبون أهل غزة؟

في مسرحية الذباب للكاتب الفرنسي سارتر مشهد يختصر معانٍ كثيرة، والمشهد باختصار كان يتحدث عن اكتشاف الحرية فجأة.. فبطل المسرحية كان اسمه "أورست"، وقد قُتل أبوه الملك على يد زوجته وعشيقها الذي حلَّ ملكاً مكانه، لم يكن أورست يعرف ما يجب عليه فعله، هل ينتقم لوالده ويسترجع عرشه أم يرضى بقدره ويعيش؟ وأثناء ذلك، كان يطلب عونَ الإله جوبتير في إرشاده إلى ما يجب عليه القيام به، لكن الإله جوبتير كان يحثُّ أورست على الرضا بالنصيب، وأن ما حدث قدر محتوم وعليك قبوله!

لكن أورست الذي اكتشف حرّيته فجأة؛ قرَّر عدم الانصياع للإله جوبتير، وعلم أنه كاذب ومنافق، وعزم على أن يثأر لأبيه، لكن الإله جوبتير كان ماكرا، فذهب إلى الملك ليُحذِّره من أورست، طالبا منه تجهيز جيشه، لكن الملك سأله متعجِّبا: وهل أورست قوي إلى هذه الدرجة كي آخذ حذري منه؟ فيجيبه الإله بجواب من أبلغ ما يكون: نعم يا سيّدى الملك إن "أورست يعلم بأنه حرّ".

لقد علم الإله جوبتير أن حرية أورست هي أعظم سلاح يواجه به هذا الطاغية، وهذا هو السر وراء تخلي الجميع عن أهل غزة وتركهم للموت وشيطنة المقاومة واتهامها، كي لا تشعر الجماهير الأخرى بأنها حرة ومن ثم تهدد عروش وتُفسد مصالح، يؤدبون أهل غزة لثباتهم والرضى بما فعلته المقاومة، ومن ثم يرسلون إشارات لباقي الشعوب، لا تغتروا بهم فهم إما قتلى أو جوعى أن مشردين، إلزموا غرس الخذلان والصمت وإلا أصبحتم مثلهم.

جزى الله أهل "غزة" كل الخير، فقد كشفت محنتهم الساقطين واللاقطين والمرتزقة ومَن لهم ثمن في سوق الحياة، تلك هى غاية المِحن والأزمات، هدف إلهي يعلو فوق كل هدف آخر، يريد الله طرد الخَبث من جراح الأمة حتى يتدفق الدم بعد ذلك في الجسد على نظافة بلا أى شائبة، غسلتم بدمائكم أوساخ الأمة، وما زال موسم السقوط مستمرا، وعلى الضفة الأخرى نجد مئات الآلاف من الأجانب ومَن ليسوا بعرب ولا مسلمين يخرجون في تظاهرات يدينون القصف ويهتفون ضد تجار الموت والكيان اللقيط، فإسلامك وعروبتك ليس دليلا على انتماءك وإنسانيتك، فمن مات الإسلام في قلبه وانسلخ من هويته ولم يترجمه سلوكه لا يدخل في تعداد العرب ولا المسلمين، لقد سقطنا جميعا وبقيت غزة واقفة أمام أعتى أنظمة الظلم في العالم، فإن عاشوا فهم أحرار وإن ماتوا فهم شهداء، أما العار فهو من نصيبنا مع الشكر.