هشام النجار يكتب: سراقة بن مالك في الضفة الغربية!

ذات مصر

دعوني أعترف أن من ألطف الأنباء التي قرأتها وأنا أتتبع سير الأحداث وأراقبها لحظة بلحظة في الضفة الغربية (قبل غزة)؛ أنهم بالبحث عن هوية أحد شهداء الأيام الأخيرة في الضفة اكتشفوا أنه أحد عناصر الجهاز الأمني بالسلطة الفلسطينية؟
تذكروا أنني ذكرت لكم من قبل هنا أنني أراهن على المقاومة في الضفة وأعول عليها لصياغة وتدشين مشروع مقاوم مُرعب للمحتل الصهيوني بطول وعرض فلسطين التاريخية (وذكرت دوافع تصوري هذا).
هل تدركون معي معنى أن يخرج عنصر تابع لجهاز أمن السلطة الفلسطينية من بيته حيث من المفترض أن يذهب إلى عمله المعتاد الذي يتقاضى عليه راتبه الشهري، فتحدثه نفسه بالجهاد والنضال ضد المحتل فيأخذ طريقًا مختلفًا إلى ساحة من ساحات مواجهة العدو، وهناك ينال الشهادة؟
الرجل كانت وظيفته مع آخرين التي يتقاضى راتبه لأجل القيام بها إلى وقت قريب هي حفظ الأمن والاستقرار في مدن ومخيمات الضفة، ويتضمن ذلك ملاحقة عناصر المقاومة النشطة في جنين ونابلس والخليل وغيرها، يتحول بين عشية وضحاها إلى مقاوم وفدائي.
وللتوضيح فقط فوضع الضفة ظل لفترة طويلة كالتالي:
سلطة فلسطينية ضعيفة جدًا تتوهم بأنها تحكم تحت سلطة احتلال إسرائيلي قمعية تمارس الاضطهاد والقتل والتهجير والطرد من المنازل وسرقة حقول الزيتون والحرمان من المراعي والمياه ضد هؤلاء الذين من المفترض أن تحميهم السلطة الأولى، فيمَ الثانية تطلب من الأولى مساعدتها في القبض على كل من تخول له نفسه التمرد ورفض الوضع القائم سواء بالكلام أو الهتاف أو الصياح أو السلاح.
وصف محافظ نابلس (ولا داعي لذكر أسماء) أمهات المقاومين في الضفة بأنهن متهورات يلقين بأبنائهن في التهلكة!
تناضل المقاومة في الضفة منذ زمن بعيد وفي مراحل كانت على وشك إطلاق ثورة، وزاد قلق الإسرائيليين وداعميهم الأميركان والأوربيين حيالها مؤخرًا، والجديد واللطيف جدًا بشكل لا يُصدق هو ما ذكرته لكم؛ أن عناصر من جهاز أمن السلطة تنضم للمقاومة بشكل فردي، وقد اكتشفوا أحدهم بعد أن نال الشهادة.
هذا المشهد يحتاج لتشريح كامل لنتعلم دروسه ونستوعب أبعاده ونمضي على هدى، فلا نفقد صديقًا ظننا به سوءًا في بداية الطريق، ولا نتعجل الحكم ونسبق بقطيعة وخصومة وربما عدوان ضد شخص قد يصبح يومًا حارسًا لنا بعد أن كان حارسًا علينا يلاحقنا ويتعقبنا.
لابد من الرجوع للبدايات حيث أخذ النبى صلى الله عليه وسلم فى هجرته الى المدينة كل الاحتياطات، وبكل أسباب الحذر بعد الإعداد والتخطيط المتقن، وفى توكله على الله استكمال لشروط الانجاز والنجاح.
كان العون والتأييد للرسول صلى الله عليه وسلم المناضل الأول من أجل الرسالة والمنهج بما يليق ومكانته وقربه من ربه وبدوره الذى يقوم به، وبما يناسب ما تواجهه الدعوة الوليدة ساعتئذ من تحديات، فكانت المعجزات وتعمية العيون وهو يخرج من بيته، ووجوده بالغار هو وصاحبه ولا يراه الكفار، كل ذلك مقرونًا بالجهد العقلى والحركى.
من يحمل المنهج والدعوة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مطالب باعتبار السنن والتعامل مع الواقع بما يتطلبه من تفكير وتخطيط وإعداد والأخذ بكل الوسائل والأسباب الضامنة للنجاح والإنجاز.
أما المعجزات فخاصة بالرسول وحده، واذا كانت الدعوات لا تستجاب كدعوات النبى فور النطق بها كسقوط فرس سراقه بن مالك (اللهم أصرعه.. فصرعه الفرس ثم قامت تحمحم)..
ساعتها تحول الذى شاهد المعجزة الرسولية من شخص يتعقب ويلاحق المناضل الأول يريد قتله إلى مؤمن به، بل وإلى حارس له ولدعوته، عندما قال للرسول بعد أن رأى المعجزة: يا نبى الله مرنى بما شئت، فقال له الرسول: (فقف مكانك لا تتركن أحدًا يلحق بنا) .. ففعل؛ أى وقف سراقة ليحمى ظهر الرسول ويحرسه.
هذا ما حدث إذن: سراقة ذهب خلف الرسول المهاجر المناضل من أجل الحقوق والتحرر والدعوة ليقتله ربما لقبض مكافأة مالية، لكنه بعدما عاين المعجزة آمن وصار جنديًا وحارسًا يحمي ظهر من كان يلاحقه ويطلبه ليقتله.
المناضلون والمقاومون وحملة الدعوة الحقيقيون والمتدينون المنهجيون مطالبون اليوم بالسنن الواقعية والأخلاق والاحترافية والإبداع وبالتعامل مع الواقع والتحديات بأدوات عالم الشهادة -لا عالم الغيب  وساحة الواقع - لا الخيالات والأمنيات والرؤى -. 
هم مطالبون بالسير على سنة الرسول وتحويل مطارِدى المناضلين والمقاومين فى العالم وفلسطين الى حماة وحراس لهم: (قف مكانك، لا تتركن أحدًا يلحق بنا) !
لا ينتظرون معجزات إنما يتعاملون مع واقع، وسراقة بن مالك فى ربوع الأرض لا يتحول من مطارد وملاحق للمناضلين إلى حارس لهم ومشارك في نضالهم بمجرد التمنى، إنما هناك آلاف الخطط والرؤى الواقعية المدهشة التى تحول مطارِدي (المقاومة) الى حماة وحراس لها.
أنظروا.. دعا على الفرس لا على الفارس.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم بإمكانه أن يدعو فيقضى على سراقة نفسه لا على فرسه، لكنها الخبرة المنهجية التى يورثها لرواد المنهج ومريديه ومحبيه ورعاته وتلامذته، بأن يستبقوا المُطارِدِين فلا يبذلوا جهدهم ويصرفوا كل خططهم فى كيفية القضاء عليهم والتخلص منهم، إنما فى الوصول الى أداة ما وسلوك ما يدهش ويسحر ويجذب ذلك المطارِد للمقاومة ويحوله إلى حارس لها.
ربما كانوا مشغولين بالوظيفة والعائلة والراتب (كان سراقة مشغولًا ومدفوعًا بالمكافأة)، لكن حينما حانت ساعة الحقيقة تغير وتحول.
أي لا تتعجلوا، فيومًا ما سيدرك من في الضفة أن الجميع في مركب واحدة وأن العدو ليس المقاومة بل إسرائيل، ويومًا ما سيدرك أنه كان عائشًا في وهم كبير؛ فالسلطة لا تُمارس إلا بعد نيل الحرية، والحرية لا يحوزها من يعيشون في جزر منعزلة، متفرقون مشتتون متصارعون، متنافسون على سراب.
ترك لنا القائد المنهجى صلى الله عليه وسلم الفكرة العامة، وعلى تلاميذه على مر الزمان الابداع فى الوسائل والآليات ليجعلوا من مطاردى المناضلين حماةً وحراسًا لهم، ولا يعلم جنود الله إلى هو.
فلا تغتر إذن وتُعجب بنفسك فلست وحدك من يحمل راية وشعلة النضال، ولا تصدر أحكامًا على أشخاص قد يكونون مغلوبين على أمرهم حينًا، وسرعان ما يتحولون لأسود في الميدان منتصرين للمقاومة،  وهم من كان يظن البعض أنهم يطاردونها ويضيقون على رموزها.  

[email protected]